فساد مُحصَّن بالسلطة: كيف تكشف قضية البنك الأهلي عن انهيار معايير الاختيار بزمن الانقلاب

- ‎فيتقارير

 

في واحدة من أخطر القضايا التي هزّت القطاع المصرفي المصري، أصدرت محكمة جنايات الجيزة، اليوم السبت، حكماً بالسجن المؤبد بحق مدير فرع في البنك الأهلي ومراقبة خدمة العملاء، مع أحكام بالسجن المشدد تراوحت بين 15 و5 أعوام بحق باقي المتهمين، إلى جانب تغريمهم جميعاً نحو 21.5 مليون جنيه مصري، وعزل المتهمين الرئيسيين من وظائفهم الرسمية.

 

القضية، التي وُصفت بأنها من الأكبر في تاريخ البنك الحكومي الأهم في البلاد، لم تكن مجرد واقعة احتيال مالي، بل كاشفة لمنظومة كاملة من الفساد الإداري المحمي بالمنصب والنفوذ، في زمن أُعيدت فيه هندسة مؤسسات الدولة على أساس الولاء لا الكفاءة، بعد انقلاب أطاح بالمسار الديمقراطي وفتح الباب واسعاً أمام شبكة من المصالح المغلقة.

 

المنظومة لا الفرد

 

بحسب تحقيقات نيابة الأموال العامة العليا، استغل مدير الفرع وموظفة خدمة العملاء صلاحياتهما الوظيفية لتزوير طلبات سحب وتحويل من حسابات العملاء، مستخدمين محررات مزورة، مع التلاعب بالنظام الإلكتروني للبنك لإظهار أن أصحاب الحسابات حضروا بأنفسهم لتنفيذ العمليات. ثم جرى تحويل الأموال إلى حسابات شركاء خارج البنك تولوا سحبها وتسليمها للمتهمين الرئيسيين.

 

اللافت أن الجريمة لم تكن عملاً فردياً معزولاً، بل جرت بمشاركة موظفة أخرى داخل البنك، سهّلت الحصول على نماذج السحب ووقّعت عليها بتوقيعات مزورة، في مشهد يعكس كيف يتحول الجهاز الوظيفي، في ظل غياب الرقابة الحقيقية، إلى أداة للنهب المنظم.

 

هاربون تحت حماية العجز أو التواطؤ

 

النيابة أحالت تسعة متهمين للمحاكمة، من بينهم سبعة هاربون، ثبت تورطهم في استخدام حساباتهم كواجهات لإخفاء الأموال المنهوبة. وهو ما يطرح تساؤلات خطيرة حول قدرة الدولة – أو إرادتها – في ملاحقة شبكات الفساد المرتبطة بمراكز النفوذ.

 

ما بعد الحكم: الجريمة كعرض لمرض أعمق

 

ورغم أهمية الأحكام الصادرة، فإن هذه القضية تعيد فتح ملف أكبر يتعلق بطبيعة المرحلة التي أُعيد فيها تشكيل القيادات في المؤسسات الحيوية بالدولة. ففي زمن الانقلاب، لم يعد معيار النزاهة أو الخبرة هو المحدد الأول للاختيار، بل القدرة على الانصياع، والصمت، والتكيف مع منظومة تُدار بمنطق الحماية المتبادلة.

 

إن ما جرى داخل أروقة أكبر بنك حكومي في البلاد لا يمكن فصله عن سياق سياسي عام تراجع فيه مبدأ المحاسبة، وجرى فيه تهميش الكفاءات المستقلة، لصالح شبكات ولاء يغذّيها الخوف ويحصّنها النفوذ.

 

اعتداء على الثقة وليس المال فقط

 

وصفُ النيابة للوقائع بأنها "اعتداء صارخ على المال العام وثقة المودعين" لا يعكس إلا جزءاً من الحقيقة، فالجريمة في بعدها الأعمق هي اعتداء على ما تبقى من ثقة المواطنين في مؤسسات الدولة نفسها، التي باتت – في نظر كثيرين – عاجزة عن حماية أموالهم أو ضمان الحد الأدنى من النزاهة داخل أجهزتها.

 

في المحصلة، لا تكشف هذه القضية فقط عن عملية نصب واحتيال كبرى، بل تفضح النموذج الذي أفرزه زمن الانقلاب: قيادات تُختار على أسس مشوهة، ومنظومة رقابة مُفرغة من مضمونها، وفساد لا يُكتشف إلا حين يفيض عن الحد ويصبح فضيحة لا يمكن احتواؤها.