دعا د. محمود حسين القائم بأعمال المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين إلى أن تتحول حادثة الإفك من أزمة عابرة إلى مدرسة تربوية للأمة، تعلمها أن مواجهة الشائعات والاتهامات لا تكون بالانفعال، بل بالوعي الجماعي، وحسن الظن، والتمسك بالقيم، لتظل الأمة متماسكة أمام محاولات التفتيت عبر العصور.
وعبر رسالة بعنوان (دروس وعبر من حادث الإفك) نشرها موقع (إخوان أونلاين) أكد الدكتور محمود حسين أن حياة النبي ﷺ كانت نموذجًا بشريًا متكاملًا، عصمه الله من المحظور الشرعي، وجعل سيرته العملية شرحًا لمنهج الإسلام. ومن أبرز أحداث السيرة حادثة الإفك التي نالت بيت النبوة وأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وأثارت تساؤلات حول الحكمة من وقوعها، وتأخر نزول الوحي قرابة أربعين يومًا، ونزول عشر آيات كاملة لمعالجتها.
وعن إسقاط الدروس على واقع الجماعة، عبر الدكتور محمود حسين أن العلاج لأي انحراف يكون بالتركيز على الصف كله، وتذكيره بالقيم الجامعة، كما فعل الإمام البنا حين وضع أركان البيعة العشرة وجعل مسؤولية حراستها على كل فرد. والالتزام بالأسس الشرعية من تحريم الغيبة والنميمة وسوء الظن هو الضمانة لتحصين الصف من الشيطان.
وأشار إلى أن الحكمة الإلهية اقتضت أن تكون الحادثة وسيلة لتربية الأمة وتصحيح وعيها، إذ كان في المجتمع منافقون وضعفاء وغافلون، فجاءت الآيات لتثبيت القيم وحماية الصف المسلم من التفكك، ولتظل درسًا للأجيال اللاحقة في مواجهة الصراع بين الحق والباطل.
ولفت إلى أن القرآن لم يكتفِ بتبرئة أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر، بل تناول القضية بمنهج شامل، فحذّر من إشاعة الفاحشة، وأكد ضرورة إحسان الظن بالمؤمنين، وعدم ترديد ما لا علم به، وبيّن أن ما يُحسب شرًا قد يكون خيرًا للأمة. كما عاتب أبا بكر رضي الله عنه حين أراد قطع النفقة عن مسطح، موجهًا إياه إلى مقصد أعظم وهو مغفرة الله.
ومن الدروس المستفادة:
القاعدة الأولى: حماية المجتمع مسؤولية كل فرد، فالمؤمنون مأمورون بحسن الظن، ورفض البهتان، وعدم إشاعة الفاحشة.
القاعدة الثانية: معالجة الأحداث بالتركيز على عموم الصف، لا الاكتفاء بمن شارك، لأن تحصين الجماعة بالقيم يجعل الخارج عنها شاذًا.
القاعدة الثالثة: إعمال العقل والقلب قبل ترديد الأخبار، كما فعل أبو أيوب وزوجته حين قاسا الاتهام على أنفسهما فاستبعداه.
القاعدة الرابعة: بناء العلاقات على حسن الظن، ووقف النميمة، والالتزام بقول الخير أو الصمت، مع اشتراط الأدلة القاطعة قبل إطلاق التهم.
وأشار إلى أن تأخر نزول الوحي كان مقصودًا لإعطاء الأمة فرصة للتفكير والفرز، ولتتعلم أن الاتهام طال بيتًا محفوظًا بعناية الله، وأنه من عمل المنافقين والشيطان الذي يستهدف وحدة الصف. الآيات لم تفصل في شأن المنافقين، بل ركزت على تربية المؤمنين، مؤكدة أن كل أمر يمر بهم هو خير لهم، كما جاء في الحديث الشريف: “عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير“.
دروس وعبر من حادث الإفك
بقلم الأستاذ الدكتور محمود حسين
القائم بعمل فضيلة المرشد العام لجماعة “الإخوان المسلمون“
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.. وبعد:
فمن رحمة الله سبحانه وتعالى وحكمته أن جعل حياة النبي صلى الله عليه وسلم نموذجًا متكاملًا من حياة البشر؛ ليكون القدوة للمسلمين عبر كل العصور: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21]، وعصمه الله سبحانه وتعالى مِن ارتكاب محظورٍ شرعيّ، ولم يُقرّه على تصرُّفٍ بشريٍّ وقع منه ﷺ وكان خلافَ الأوْلى.
وجاءت أحداث السيرة النبوية لتبيِّن للأمة الإسلامية شرحًا عمليًّا لمنهج الإسلام في كثير من تفاصيله، وموضِّحة لكثير مما جاءت به نصوص الوحي مُجمَلًا، ولذلك وجب على المسلم أن يقف على أحداث السيرة، ويستلهم منها الدروس والعبر، التي تفيده في أمور معاشه ومعاده.
ولعل حادثة الإفك رغم أنها نالت شخصَ أمِّ المؤمنين عائشةَ رضي الله عنها، وبيتَ النبوة، وبيتَ أبي بكر رضي الله عنه أحبِّ الناسِ وأقربِهم إلى رسول الله ﷺ، والذي زكّاه القرآنُ منفردًا كما فَهِم عمرُ رضي الله عنه حين قدّمَه للبيعة خليفةً لرسول الله ﷺ: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40]، وجاءت الآية في معرض الحث على الجهاد قبلها وبعدها، وتحذير المؤمنين من التثاقل عن الجهاد ونصرة رسوله ﷺ، وكأن الآية استثنت أبا بكر رضي الله عنه من هذا التحذير، وكانت تزكيةُ عمرَ له بأن قال عنه: “أنت ثاني اثنين إذ هما في الغار“.
والأسئلة كثيرة تطرح نفسها:
هل كان هناك حاجة لأن يَمَسّ حادثُ الإفكِ بيتَ النبوة، وليس بيتًا من المسلمين؟ وخاصة في حدث صعب؟
وهل كان يحتاج علاجُه لأن يتنزل فيه قرآن يُتلى إلى يوم القيامة، لأقوامٍ لم يعيشوا الحدثَ، وجاءوا بعد عصر النبوة مثلنا؟
ولماذا لم يكتف القرآن بتبرئة أم المؤمنين، وجاءت آياته متضمنةً الحديثَ للمؤمنين جميعًا؟
وهل يعطي الحديثُ دروسًا للأمة بعيدًا عن حدث مماثل؟
ولماذا تأخر القرآن لفترة طويلة قاربت الأربعين يومًا؟
والأسباب الظاهرة في هذا الأمر؟
ونقول: بالتأكيد هذا ما اقتضته حكمة الله عز وجل، وحاشا لله أن تكون عبثًا؛ فالجيل الأول كان معهم منافقون، وهناك من يتأثر بهم، وهناك غافلون في الأمة عما يدبر لتفتيتها، وهناك الطيبون من المؤمنين، الذين ليس لديهم عمق في فهم الأمور، وفيهم المؤمنون الواعون….الخ، ومن هنا تأتي الأحداث لتربية الأمة، وتصحيح وعيها، والتأكيد على قيمها وثوابتها، ولتستفيد منه الأجيال اللاحقة، ولتبيِّن للأمة أن القضية الأساسية هي الصراع بين الحق والباطل، ولذلك كان استهداف بيت النبوة لأن هذا الاستهداف في نظر أهل الباطل سيشكك في الرسالة نفسها؛ لذلك اهتمت الآيات بحماية الأمة والتأكيد على قيمها وثوابتها.
لم يكتف القرآن بتبرئة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بآية واحدة فقط؛ وإنما جاءت نحو عشر آيات تخاطب الأمة المسلمة، ليس في العهد الأول؛ وإنما يظل قرآنًا يُتلى إلى يوم القيامة تحذيرًا وتنبيهًا وتربيةً لها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؛ لأن الحدث قد يتكرر بصور مختلفة، وليس بالضرورة باتهام بالفاحشة فقط؛ وإنما تناول كل الظواهر التي تحتاج لعلاج؛ ليقدم لنا طريقة التفكير والتعامل الصحيح معها.
ولذلك تناولت الآيات آدابًا عامةً كان ينبغي أن تعيها الأمة، بدءًا من قواعد الحفاظ على قيم المجتمع وعدم إشاعة الفاحشة فيه، وضوابطِ إنزالِ الاتهام بأحد من المؤمنات، وعقوبة من يخرج على هذه الضوابط، ثم تناولت حديثًا للمؤمنين جميعًا:
{لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ..} [النور: 11].
{لَّوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا..}.
{وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّـهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}.
{وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَـٰذَا سُبْحَانَكَ هَـٰذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ}.
{إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّـهِ عَظِيمٌ}.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ..}.
{وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَىٰ…}.
{أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّـهُ لَكُمْ}.
والآيات لم تُوجَّه فقط لمن شارك في الحدث، وما جاءت لتضبط أخلاق الصحابة فقط، وإلَّا لاكتفى الأمر بتوجيه الوحي للنبي صلى الله عليه وسلم بما يصحح فهم الصحابة رضوان الله عليهم، وإنما جاءت جزءًا من القرآن يتلى إلى يوم القيامة؛ لضبط أخلاق الأمة جمعاء على اختلاف عصورها.
آيات متتاليات تعالج آثار الحدث.. ونحب أن نقف عند بعض القواعد والدروس منها:
القاعدة الأولى والهامة في الحدث: أنها أنزلت التكليف في حماية المجتمع وصيانته لآحاد الأمة، وأنه المعني بحراسة قيم وثوابت الأمة:
{ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا..}.
{ما يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَـٰذَا سُبْحَانَكَ هَـٰذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ}.
{إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ..}.
{إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ..}.
فالأمة إذا قامت بواجبها فسيصبح من يخرج عن قيمها شاذًّا يعيده الصف المسلم لجادة الصواب، أو يعيده القانون؛ ولذلك قال الخليفة الأول رضي الله عنه: ” إن أصبت فأعينوني وإن رأيتم في اعوجاجًا فقوِّموني”، وقال عمر رضي الله عنه: ” الحمد لله الذي جعل في أمة محمد من يقوِّم اعوجاج عمر بسيفه“.
القاعدة الثانية: هي الأسلوب الذي اتبعته الآيات في علاج الحدث؛ والذي اعتمد على الاهتمام بالتوجيه لكل المؤمنين:
ذلك أن الحادثة شاعت بين كثير منهم فلم تُعْنَ الآيات بالبحث عمن شارك، لكن الأهم هو التأكيد على استقرار القيم والثوابت في أبناء الأمة {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُم..}، ولم تستثن الآيات إلا مَن تولى كِبره: {وَالَّذِي تَوَلَّىٰ كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ}، وأقام النبي صلى الله عليه وسلم الحد على من لم يتحقق في قوله أربعة شهود.
وهذا الأسلوب ينبغي أن يكون درسًا للأمة لمعالجة أحداث متشابهة كما سنذكر فيما بعد.
القاعدة الثالثة هي إعمال العقل والقلب فيما يسمع الإنسان ولا يقوم بترديده كما سمعه:
{إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّـهِ عَظِيمٌ}.
ولو أن المؤمنين أعملوا عقولهم كما صنع أبو أيوب وزوجته رضي الله عنهما حين تناقشا فقال: يا أم أيوب أرأيت لو كنت مكان عائشة يمكن أن تفعلي ما رُميت به عائشة رضي الله عنها؟ قالت: لا والله، قال: فوالله لعائشة خير منك ومن نساء العالمين.
قالت : يا أبا أيوب لو كنت مكان صفوان أيمكن أن تفعل به ما رُمي به صفوان؟ قال: لا والله، قالت: فصفوان والله خير منك.
القاعدة الرابعة: هي طبيعة العلاقة الصحيحة التي تربط المسلمين بعضهم ببعض، والتي لا يقوم المجتمع المتماسك إلا بها، وهي: حسن الظن، وعدم إساءة الظن أو إلقاء التهم بلا دليل، ووقف النميمة، وألا يُنقل ما يسمع الإنسان.
ولذلك كان من توجيهات النبي صلى الله عليه وسلم: ” من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت “(رواه البخاري).
بل إن بعض التهم تحتاج إلى أدلة متعددة وقوية قبل الحديث فيها، ويستوجب الحديث فيها دون استكمال الأدلة القاطعة إقامة الحد على من يخوض فيها ورفض شهادتهم إلا بتوبة.
لم يأت التنزيل مباشرة بعد الحدث، وإنما ترك الأمة تتفاعل معه طوال ما يقرب من أربعين يومًا؛ لإعطاء الفرصة للأفراد في إعمال التفكير، والعودة للأصول، وتصحيح المفاهيم، وللفرز أيضًا، وللتفكير العقلي والذي غاب في خضم الحدث؛ فنسي الناس أن الاتهام نال بيت النبوة المحصَّن بحفظ الله، ونال أم المؤمنين رضي الله عنها والتي جاء اختيارها زوجة للنبي صلى الله عليه وسلم من رب العالمين الذي لا يخفى عليه شيء، وأحد الصحابة الكرام رضي الله عنه.
كان من ألقى الاتهام منافقًا معلوم النفاق. ونبهت الآيات لتصحيح طبيعة البعض؛ إذ لا يُعمل عقله وقواعد الشرع فيما يسمعه، ووصفته بوصف دقيق: أنه يتلقاه بلسانه دون أن يمر على عقل أو قلب؛ فيعيده مرة أخرى بفاهه؛ دلالة على سرعة التعامل مع ما سمع دون تمحيص أو تدقيق.
جاء الحديث في الآيات عامًّا، ولم يتوقف عند من شارك فقط، وهو عدد محدود، لكن كما ذكرنا هو يعالج الحدث وأمثاله عبر العصور، وكثرة الآيات تؤكد حاجة الأمة في كافة العصور إلى تذكر ما فيها من أحكام وآداب.
حملت الآيات عتابًا رقيقًا لأبي بكر رضي الله عنه، رغم ما أصابه من أذى قابله برد فعل بشري؛ بأن أراد وقف النفقة التي كان يعطيها لمسطح رضي الله عنه، فردته الآيات للغاية العظمى التي يريدها وهي مغفرة الله سبحانه وتعالى، وهو تأديب يتناسب مع منزلته العالية رضي الله عنه.
نبَّهت الآيات أن ما حدث إنما هو من عمل الشيطان، وهو دليل على استهداف تماسك الأمة ووحدتها من خلال الوسوسة لمن يتملَّكه الشيطان، وكما نعلم فإن الشيطان يجري في عروق ابن آدم مجرى الدم، والتحذير هو حتى من اتباع خطواته والتي قد لا يدرك بداياتها إلا من كان إيمانه قويًّا ومستعينًا بالله.
أهملت الآيات الحديث تفصيلًا عن المنافقين إلا في بداية الحديث: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ ۚ وَالَّذِي تَوَلَّىٰ كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ}، وفي هذا إشارة إلى المَعنِيِّ الحقيقي في التصويب والتربية وهو عموم الأمة، أما المنافقون فاكتفت الآيات بالإشارة لمصيرهم.
أكدت الآيات أن كل أمر يمر بالمؤمنين هو خير لهم {لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}، وهو ما عبَّر عنه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: ” عجبًا لأمر المؤمن؛ إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له” (رواه مسلم).
أما إذا ما حاولنا الاستفادة من الحدث وإسقاطه على واقعنا كجماعة من المسلمين:
فسنجد فيه الكثير، إضافة للقواعد الأربعة المذكورة آنفًا؛ فهي قواعد عامة وليست مرتبطة فقط بحادثة الإفك:
إذا انتشرت قيم أو عادات غير صحيحة؛ فيجب أن يكون العلاج هو التركيز على الاهتمام بعموم الصف، وليس بمن شارك فقط؛ لأن تحصين الصف بإعادة تذكيره بالقيم التي تربى عليها وأنه المسؤول عن حمايتها.. يجعل الخروج عنها شاذًّا ومنكرًا؛ وبالتالي يتضاءل ولا يكون مؤثرًا على عموم الصف.
ولعل ذلك ما ألهم به الله الإمام البنا رحمه الله؛ بوضع أركان البيعة العشرة وجعل مسؤولية حراستها والحفاظ عليها مسؤولية كل فرد من الإخوان العاملين الصادقين في بيعتهم، وهو ما أكده الأستاذ مصطفى مشهور رحمه الله حين سئل: ماذا قدم الإمام البنا لتحصين الصف؟ فقال: أركان البيعة العشرة.
الالتزام بالأسس التي حضَّ عليها القرآن والسنة من تحريم الغيبة والنميمة، وتناقل الأخبار، وسوء الظن… الخ، وضرورة إحسان الظن بالمسلم، والذي يقطع الطريق على الشيطان، قال ابن عاشور في تفسيره: “إذا سمع قالةً في مؤمن أن يبني الأمر فيها على اليقين، لا على الشك، ثم ينظر في قرائن الأحوال وصلاحية المقام؛ فإذا نسب سوء إلى من عُرف بالخير؛ ظن أن ذلك إفك وبهتان حتى يتضح البرهان، وفيه تعريض بأن ظن السوء الذي وقع هو من خصال النفاق“.
فمن الخطورة ألَّا يقف الأمر عند سوء الظن؛ ليتعداه بالوقوع في الغيبة والنميمة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أتدرون ما الغيبة؟” قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: “ذكرك أخاك بما يكره”، قيل: أفرأيت إنْ كان في أخي ما أقول؟ قال ﷺ: “إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فقد بهته” (رواه مسلم).
وكذلك خطورة إثارة الشبهات أو اعتماد الكلام المرسل الذي لم يقم عليه دليل على وحدة الصف وتماسكه، وخصوصًا إذا ما كان موجهًا لقيادات ورموز الجماعة؛ لأن ذلك سيولَّد عدم الثقة في الجماعة وقياداتها، بل وفي منهجها، ويثير البلبلة داخل الصف، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (الحجرات: 6).
وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ۖ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا..}.
قال ابن حجر رحمه الله: “عقَّب تعالى بأمره باجتناب الظن، وعلَّل ذلك بأن بعض الظن إثم، وهو ما تخيلت وقوعه من غيرك من غير سند يقيني لك عليه، وقد صمم عليه قلبك أو تكلم به لسانك من غير مسوغ شرعي”.
