المسلم الحقيقى لا يعيش منعزلًا عن الناس، بل يخالطهم ويعاملهم بالحب على جفائهم، ويكسب ودهم ويفرِّج كُربَهم، مقتديًا فى ذلك بنبيه ﷺ الذى كان خُلقه القرآن، أو كان قرآنًا يمشى على الأرض -كما وصفته زوجه السيدة عائشة رضى الله عنها، فكان ﷺ على العموم: مبشرًا غير منفِّر، ما خُيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا، وكان حليمًا عفوًّا صابرًا، وكان أبعد الناس غضبًا وأسرعهم رضا، وكان جوادًا كريمًا يعطى عطاء من لا يخاف الفقر…
وكان ﷺ أشد الناس حياء، وأعدلهم وأعفَّهم، وأصدقهم لهجة وأعظمهم أمانة.. وكان أوفى الناس بالعهود وأوصلهم للرحم.. وكان أحسن الناس عشرة وأبعدهم عن سوء الأخلاق، ولم يكن ﷺ فاحشًا ولا متفحشًّا ولا لعانًا ولا يجزى بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح.
أما هدف المسلم من إسداء كل هذا المعروف لغيره فهو: رضا الله والجنة، وهذا الفضل يؤتيه الله لأصحاب القلوب السليمة والعقول الراشدة، الذين سلم الناس من ألسنتهم وأيديهم، وصبروا وعفوا عن الخلق، وتغافلوا عن زلاتهم، يقول ﷺ: «لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أدلكم على شىء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم».
إن الناس فى حرب على متاع الدنيا؛ لذلك فإن كثيرين منهم يكذبون ويسرقون ويخدعون ويلحقون بالآخرين الضرر، وقد يخونون ويوالون غير المسلمين.. ومن دخل هذه الدائرة، دائرة الجرى خلف متاع الدنيا والمنافسة عليها، فإنه لا يسلم من عواقبها؛ من أجل ذلك وصف النبى ﷺ الدواء بقوله: «انظر فى هذا الحطام فانبذه إليهم»؛ مؤكدًا أن ما يتصارع عليه الناس ليس سوى حطام فانٍ، ومؤكدًا أيضًا أن حب الناس غير متحقق إلا بالزهد مما فى أيديهم.
وإن طاعة الله مفتاح كل خير، ورجاء كل قاصد، وهى قنطرة العبور إلى قلوب الآخرين، والحاجز لكل شر وقطيعة، ومن يطع اللهَ يحبه خلقُ الله، ومن أحبه اللهُ كُتب له القبول فى الأرض؛ «أما العاصى -كما قال ابن القيم-؛ فإنه يشعر بوحشة بينه وبين الناس، ولا سيما أهل الخير منهم، وكلما قويت تلك الوحشة بعُد منهم ومن مجالسهم، وحُرم بركة الانتفاع بهم، وقرُب من حزب الشيطان بقدر ما بعُد من حزب الرحمن، وتقوى هذه الوحشة حتى تستحكم فتقع بينه وبين امرأته وولده وأقاربه، وبينه وبين نفسه، فتراه مستوحشًا من نفسه».
فلا تحقرن من المعروف شيئًا؛ فرب عمل صغير بنية صادقة أدخلك الجنة، كما ورد عن المعصوم ﷺ: «مر رجلٌ بغصن شجرة على ظهر طريق فقال: والله لأنحين هذا عن المسلمين لا يؤذيهم، فأُدخل الجنة»، فالمؤمن مرآة إخوانه، وهم جميعًا: يسعى بذمتهم أدناهم وهم يدٌ على من سواهم. وليكن حظ الناس منك ثلاثة -كما قال يحيى بن معاذ الرازى-: «إذا لم تنفعهم فلا تضرهم، وإن لم تفرحهم فلا تغمهم، وإن لم تمدحهم فلا تذمهم»؛ فـ«المؤمن مرآة المؤمن، المؤمن أخو المؤمن، يكف عن ضيعته، ويحوطه من ورائه». كما قال رسول الله ﷺ.
إن الذى يسعى إلى وصل حباله مع الآخرين لا بد أن يعلم أن فاقد الشىء لا يعطيه، فلا ينتظر محبة الناس وهو فظٌّ قاسٍ، ولا ينتظر ودهم وهو يعوزه الرفق واللين؛ (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ…) [آل عمران: 159].
إن نبى الله ﷺ تعرّض لأشد أنواع الأذى من المشركين فكانت تسبق رحمته غضبه، فلم يغضب لنفسه قط، عن أبى هريرة قال: قيل يا رسول الله! ادع على المشركين، قال: «إنى لم أُبعث لعانًا، وإنما بُعثتُ رحمة»، وهو القائل لهم يوم فتح مكة: «لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين».