حقيقة الصوفية

- ‎فيمقالات

الحديث عن الصوفية: تعريفها، نشأتها، حقيقتها إلخ لا يكفيه المقال والمقالان، بل يحتاج إلى دراسة مطولة؛ لكثرة الأقوال والآراء والاتفاقات والاختلافات، غير أننا فى هذا المقال نلمح إلى هذه الفكرة ونبين -بإيجاز- حقيقتها؛ ردًّا على اللغط الذى دار عقب حلقة لأخينا «عبد الله الشريف» وخاض فيها فى حق بعض مشاهير المتصوفة.

تُطلق كلمة «المُتَصوف» عمومًا على (كل زاهد عن الدنيا، راغب فى الآخرة، ساع لقتل هوى النفس وتعويدها على التحمُّل والمكابدة)، وسُمُّوا بذلك لأنهم «أهل الصفاء»، يعتنون بصفاء القلوب والنظر فى أعمالها، وتحسين الأخلاق وتهذيب السلوك حتى قال بعضهم: (التصوف هو الخلق، فمن زاد عليك فى الخلق زاد عليك فى التصوف).

وقد برز التصوف على الساحة الإسلامية مع حركة الفتوحات والتوسع شرقًا وغربًا فى القرن الثانى الهجرى وما صاحبها من كثرة الغنائم وطغيان الجانب المادى، فنفرت طائفة تعيد المسلمين إلى ما كان عليه أسلافهم من الزهد والقصد. وقيل أيضًا إن من دواعى نشوئه دخول عناصر جديدة إلى حظيرة الإسلام من الفرس والهنود وغيرهما ممن لهم طقوس صوفية موروثة فخلطوها بعقائد الإسلام فنتجت بذلك البدع والانحرافات.

وقد اختلف علماء الأمة حول هذه الطائفة التى لا يُستهان بأعدادها؛ فمنهم من كفَّرهم، ومنهم من بدَّعهم وفسَّقهم، وفريق شايعهم، وآخرون أنصفوهم قالوا بأن لهم ما لهم وعليهم ما عليهم. أما الفريق الأول فيرى أنهم سبب نكبة الأمة وهوانها؛ بإفسادهم عقائد المسلمين وإدخالهم ما ليس فى الدين، ومن ذلك: غلوهم فى النبى ﷺ بصفات لا تليق إلا بالله -عز وجل- حتى قال أحدهم (لولاه ما كان أرضٌ ولا أفقٌ… ولا زمانٌ ولا خلقٌ ولا جبلُ)، وتقديسهم لشيوخهم ورفع التكاليف عنهم حتى صاروا هم المرجع فى الخلاف والنزاع من دون الله، وحتى شاع بينهم: (الواجب على التلميذ أمام الشيخ أن يكون كالميت بين يدى الغاسل)..

ويأخذون عليهم أيضًا انزواءهم وعزلتهم ورهبانيتهم التى ابتدعوها، وقد تولَّد عن ذلك التماسهم الفقر والتسول، ولباسهم الخشن والمقطع، والكسل والتواكل والقعود عن طلب الرزق. ويعيبون عليهم الجهل وقلة العلم؛ ما دعاهم إلى عبادة الأضرحة والمشاهد وما يستتبعها من الدعاء والاستغاثة والنذر والذبح والطواف لغير الله. وهم على هذه الحال فقد فشت فيهم السلبية وامتنعوا عن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر؛ ولذا استغلهم المحتل لترسيخ أقدامه، واستخدمهم المستبدون لتحليل مظالمهم وطغيانهم وفسادهم.

أما الذين أنصفوهم فقالوا بأنهم طرائق شتى فلا تصح المساواة بينهم؛ إذ فيهم القريب من الكتاب والسنة ومنهم البعيد عنهما، وأن لهم جوانب مشرقة مثل الطاعة وحب الناس وعلاج عيوب النفس وترقيق القلوب، وإن كان يؤخذ عليهم عدم الموازنة بين مطالب الروح ومطالب الجسد. وممن أنصفوهم الإمام «ابن تيمية»، الذى ورد عنه رحمه الله: (والصواب أنهم مجتهدون فى طاعة الله كما اجتهد غيرهم من أهل طاعة الله، ففيهم السابق المقرَّب، بحسب اجتهاده، وفيهم المقتصد الذى هو من أهل اليمين، وفى كل من الصنفين من يجتهد فيخطئ، وفيهم من يذنب فيتوب أو لا يتوب، ومنهم ظالم لنفسه عاص لربه).

أما مؤسس كبرى الجماعات الإسلامية فى العصر الحديث «الإمام حسن البنا»، وقد التحق وهو فى سن صغيرة (14 سنة) بإحدى الجماعات الصوفية (الجماعة الحصافية) وبقى فيها لمدة، وصاحب قادتها ومريديها وتكوَّنت -من ثَمَّ- لديه خبرة عن هذا الطريق فيقول: (ولا شك أن التصوف والطرق كانت أكبر العوامل فى نشر الإسلام فى كثير من البلدان وإيصاله إلى جهات نائية ما كان ليصل إليها إلا على يد هؤلاء الدعاة، كما حدث ويحدث فى بلدان إفريقيا وصحاريها ووسطها، وفى كثير من جهات آسيا كذلك. ولا شك أن الأخذ بقواعد التصوف من ناحية التربية والسلوك له الأثر القوى فى النفوس والقلوب، ولكلام الصوفية فى هذا الباب صولة ليست لكلام غيرهم من الناس.. ولكن هذا الخلط أفسد كثيرًا من هذه الفوائد وقضى عليها).

ويرى «البنا» أنه يمكن الاستفادة من تلك الطاقات الهائلة وتقويم المعوج منها، وهذه مسئولية الدعاة الواعين، فيقول رحمه الله: (ومن واجب المصلحين أن يطيلوا التفكير فى إصلاح هذه الطوائف من الناس، وإصلاحهم سهل ميسور، وعندهم الاستعداد الكامل له، ولعلهم أقرب الناس إليه لو وُجهوا نحوه توجيهًا صحيحًا، وذلك لا يستلزم أكثر من أن يتفرغ نفرٌ من العلماء الصالحين العاملين والوعاظ الصادقين المخلصين لدراسة هذه المجتمعات، والإفادة من الثروة العلمية، وتخليصها مما علق بها، وقيادة هذه الجماهير بعد ذلك قيادة صالحة).

وفى تعريفه لدعوة الإخوان فيما بعد يقول «البنا»: إنها (دعوة سلفية، طريقة سنية، حقيقة صوفية، هيئة سياسية، جماعة رياضية، رابطة علمية وثقافية، شركة اقتصادية، فكرة اجتماعية)، وفى شرح «حقيقة صوفية» يقول: (إذ يعلمون أن أساس الخير طهارة النفس، ونقاء القلب، وسلامة الصدر، والمواظبة على العمل، والإعراض عن الخلق، والحب فى

الله، والأُخوة فيه سبحانه). ما يؤكد أن «التصوف» عمل رائع لو توفر له الفهم.