لم يكن القطن المصري طويل التيلة مجرد محصول زراعي، بل أحد أعمدة الاقتصاد الوطني وعلامة فارقة حملت اسم مصر إلى الأسواق العالمية لعقود طويلة. غير أن هذا “الذهب الأبيض” تحوّل فى زمن المنقلب عبد الفتاح السيسي إلى شاهد جديد على سياسات الإهمال والتدمير الممنهج، بعد أن تقلّصت مساحات زراعته، وتراجع إنتاجه وصادراته، وانكسر ظهر الفلاح الذي كان حارس هذه الثروة التاريخية.
ففي خطوة تعكس عمق الأزمة، قرر الاتحاد العام لمصدري الأقطان المصرية تعليق تسجيل أي تعاقدات تصديرية لموسم 2023/2024، إلى حين الانتهاء من تنفيذ قرار حكومي يقصر التصدير على كميات تتراوح بين 35 و40 ألف طن فقط، وهو رقم هزيل إذا ما قورن بما كانت تصدّره مصر في سنوات سابقة حين كان القطن أحد أعمدة الدخل القومي.
انهيار الإنتاج… بالأرقام
وتؤكد بيانات الهيئة العامة لتحكيم واختبارات القطن أن الإنتاج يشهد تراجعاً حاداً، إذ من المتوقع أن ينخفض بنحو 700 ألف قنطار ليصل إلى 1.2 مليون قنطار فقط هذا الموسم، مقارنة بـ 1.9 مليون قنطار في الموسم الماضي، أي بنسبة تراجع بلغت 36%.
وبرغم محاولة الجهات الرسمية تحميل الموجات الحارة مسؤولية الانخفاض، فإن الأرقام تكشف السبب الحقيقي:
تقليص المساحات المزروعة من 337 ألف فدان إلى 254 ألف فدان.
ارتفاع تكلفة زراعة الفدان بشكل يفوق قدرة الفلاح.
بخس أسعار التوريد مقارنة بتكاليف الإنتاج، ما دفع آلاف المزارعين للعزوف عن زراعة القطن.
الفلاح يدفع الثمن
ورغم تسجيل أسعار مرتفعة في أول مزادات القطن هذا الموسم – حيث بلغ سعر قنطار جيزة 92 فائق الطول في دمياط نحو 18,350 جنيهاً – فإن هذه الأرقام لا تعكس واقع الفلاح، الذي يُجبر على البيع بسعر ضمان حكومي متدنٍ لا يتجاوز 5,500 جنيه للقنطار طويل التيلة، في وقت تتضاعف فيه أسعار الأسمدة والمبيدات والري والعمالة.
مقارنة كاشفة: قبل الانقلاب وبعده
قبل انقلاب السيسي في 2013، كانت مصر تسير – ولو ببطء – نحو استعادة مكانتها التاريخية في إنتاج القطن طويل التيلة.
وخلال فترة الرئيس الشهيد محمد مرسي، جرى التركيز على:
التوسع في المساحات المزروعة.
دعم الفلاح بسعر عادل يضمن هامش ربح.
إعادة فتح الأسواق التصديرية.
بل إن مرسي نفسه كان يشارك الفلاحين موسم حصاد القطن في مشهد رمزي عكس رؤية تعتبر الزراعة أولوية وطنية لا عبئاً يجب التخلص منه.
أما اليوم، وبعد أكثر من عقد على الانقلاب، فقد تحوّل القطن طويل التيلة إلى محصول مهدد بالاندثار، بعدما تراجعت الصادرات، وتقلّص الإنتاج، وتحوّلت السياسات الزراعية إلى قرارات موسمية مرتبكة تخدم المصانع التابعة للدولة على حساب الفلاح، ولا تهدف لبناء استراتيجية قومية حقيقية.
دلالات أبعد من القطن
تعليق صادرات القطن ليس قراراً فنياً معزولاً، بل حلقة جديدة في سلسلة تدمير القطاعات الإنتاجية، من الصناعة إلى الزراعة، لصالح اقتصاد قائم على الجباية والقروض. وهو ما ينعكس في الوقت ذاته في خفض التصنيف الائتماني لمصر إلى B- من قبل وكالات دولية، في مؤشر إضافي على فقدان الثقة في إدارة الاقتصاد.
ليس أزمة طقس عابرة
ما يحدث للقطن المصري اليوم ليس أزمة طقس عابرة، بل نتيجة مباشرة لسياسات السيسي التي همّشت الفلاح، وقلّصت الزراعة، وبدّدت أحد أهم رموز القوة الناعمة والاقتصادية لمصر. وهكذا، وكما في ملفات عديدة، جاء السيسي ليحوّل ما تبقى من تاريخ مصر الإنتاجي إلى ماضٍ يُروى… لا مستقبل يُبنى.