تكشف النشرة السنوية للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء لعام 2024 ملامح أزمة اجتماعية عميقة تضرب البنية الأسرية في مصر، حيث تراجع الزواج إلى أدنى مستوياته منذ سنوات بالتوازي مع ارتفاع الطلاق لأعلى معدل منذ 2021. هذه المؤشرات، التي تبدو للوهلة الأولى ظاهرة اجتماعية، ترتبط بشكل مباشر بتدهور الوضع الاقتصادي وانهيار قيمة الجنيه ورفع الدعم وارتفاع تكاليف المعيشة تحت حكم نظام الانقلاب.
انهيار القدرة على الزواج.. الغلاء يسحق أحلام الشباب
أظهرت البيانات الرسمية أن عقود الزواج انخفضت إلى 936.739 عقداً خلال 2024 مقارنة بـ 961.220 عقداً في 2023، بتراجع بلغت نسبته 2.5%. ورغم محاولات الحكومة الترويج لبرامج "التأهيل الأسري"، فإن الواقع الاقتصادي يكشف السبب الحقيقي:
أسعار العقارات وصلت لمستويات جنونية تتجاوز قدرة الطبقة الوسطى نفسها.
الذهب سجل قفزات غير مسبوقة جعلت تكاليف الشبكة والمهر خارج نطاق استطاعة أغلب الشباب.
أسعار الأثاث والأجهزة المنزلية تضاعفت مرات بفعل الدولار وتراجع الجنيه.
رفع الدعم عن الكهرباء والوقود والخبز زاد العبء على الأسر، وأدى إلى عزوف آلاف الشبان عن خطوة الزواج من الأساس.
وبذلك لم يعد تأسيس أسرة حلماً مؤجلاً فقط، بل مستحيلاً لكثيرين في ظل ما يصفه اقتصاديون بـ"أسوأ أزمة معيشية منذ عقود".
الطلاق يقفز لأعلى مستوياته.. الأسر تتفكك تحت ضغط الفواتير
في المقابل، ارتفعت حوادث الطلاق إلى 273.892 حالة في 2024 مقارنة بـ 265.606 حالات في 2023، بنسبة زيادة 3.1%. وهو أعلى رقم منذ 2021.
ومع أن الجهاز الرسمي لم يورد أسباب الطلاق لعام 2024، فإن البيانات السابقة — وعلى رأسها عام 2022 حين سُجّلت حالة طلاق كل 117 ثانية — تؤكد أن الضائقة الاقتصادية هي المحرك الأول لارتفاع الانفصال.
الإنفاق، الإيجارات، مصروفات المدارس، التضخم الذي تجاوز الخطوط الحمراء، كلها عوامل تضغط على الأسرة لسنوات إلى أن تنهار، وهو ما توضحه الفئات العمرية الأكثر تسجيلاً للطلاق:
رجال بين 35 و40 عاماً
سيدات بين 25 و30 عاماً
متوسط عمر المطلق: 40.8 سنة
متوسط عمر المطلقة: 34.6 سنة
ما يعني أن أغلب حالات الانفصال تحدث بعد 8–15 سنة من الزواج، وهي الفترة التي تتضاعف فيها الالتزامات وتزداد الضغوط المعيشية.
الفجوة بين الحضر والريف.. المدن الأكثر تضرراً
وتُظهر أرقام 2024 أن المدن هي الأكثر تعرضاً للطلاق بنسبة 57.8%، بزيادة 5.1% عن العام السابق، مقابل زيادة طفيفة في الريف لا تتجاوز 0.5%.
كما تراجع الزواج في الريف بشكل لافت إلى 541.524 عقداً بعد أن كان 572.524 عقداً في 2023، ما يعكس وصول الأزمة حتى للمناطق التي كانت تقليدياً الأعلى في معدلات الزواج.
أسوان تتصدر الزواج.. والجيزة الأقل
سجل معدل الزواج في مصر 8.8 لكل ألف من السكان في 2024 — وهو الأدنى منذ سنوات طويلة — مقابل 9.1 في 2023.
وتظل أسوان الأعلى (14 في الألف) بينما جاءت الجيزة في ذيل القائمة (5.9 في الألف).
أما الطلاق فبلغ 2.6 في الألف، وتواصل بورسعيد صدارتها كأعلى محافظة في الطلاق.
سياسات اقتصادية تطيح بالأسرة المصرية
ورغم تصاعد الحملات الحكومية التي تُلقي باللوم على "قلة الوعي الأسري" و"عدم التأهيل"، إلا أن الأرقام تكشف حقيقة مختلفة تماماً:
غياب سياسات اجتماعية واقتصادية تحمي الأسرة هو السبب الجوهري لتفككها.
لا سكن مناسب، ولا تعليم ميسّر، ولا علاج يمكن تحمله، ولا أسعار مستقرة، ولا دعم يخفف العبء.
وبينما ينشغل النظام بشعارات عن "تصحيح المفاهيم" و"ضبط النسل"، ينهار المجتمع فعلياً تحت ضغط الغلاء، في ظل اقتصاد يلتهم الجنيه ويضع الأسرة المصرية في مواجهة مصير غير مسبوق من التراجع الاجتماعي.