مع ترقب حكومة الانقلاب زيارة بعثة صندوق النقد الدولي لتقييم ما تسميه برنامج الإصلاح الاقتصادي، ومحاولات هذه الحكومة مجاملة وإرضاء الصندوق بكل الوسائل، من أجل الحصول على شرائح القرض المؤجلة من المراجعتين الخامسة والسادسة ضمن برنامج "تسهيل الصندوق الممدد"، وفي مقدمة هذه المحاولات رفع أسعار الوقود والكهرباء والمياه وإلغاء الدعم، ما يهدد بارتفاع الأسعار وفي نفس الوقت خروج الأموال الساخنة، ما يؤدى إلى تراجع جديد لقيمة الجنيه أمام الدولار .
هذه الاجراءات الانقلابية تجعل الجنيه عند مفترق طرق ، فبين احتياطات دولارية، وتحويلات خارجية قفزت بقوة، واستثمارات تدفقت على أدوات الدين، يجد نفسه محاصراً بأعباء دين خارجي آخذة في التضخم، وتراجع حاد في إيرادات قناة السويس، فضلاً عن تقلبات الاقتصاد العالمي.
كما أن زيارة بعثة صندوق النقد المرتقبة تمثل ثقلاً مضاعفاً، لأنها قد تحدد مسار التزامات جديدة أو إصلاحات إضافية من شأنها رسم ملامح مستقبل العملة،
صعود وهمي
في هذا السياق اعتبر بعض الخبراء أن الصعود الأخير للجنيه أمام الدولار مجرد صعود وهمي، مدعوم بأدوات نقدية ومالية موقتة لا تصمد طويلاً أمام ضغوط السوق، بينما رأى آخرون أنه يعكس جملة من التطورات الإيجابية التي حققتها حكومة الانقلاب في الأشهر الأخيرة: من إبرام صفقات استثمارية كبرى مع شركاء إقليميين ودوليين، إلى تدفق مليارات من الأموال الساخنة، مروراً بارتفاع تحويلات العاملين بالخارج، وصولاً إلى النمو الملحوظ في عوائد السياحة والصادرات،
كانت جولي كوزاك، المتحدثة باسم صندوق النقد الدولي، قد أعلنت أن بعثة الصندوق ستتوجه إلى القاهرة في خريف هذا العام لإتمام المراجعتين الخامسة والسادسة من برنامج "تسهيل الصندوق الممدد" .
وقالت المتحدثة: إن "المراجعة الأولى لبرنامج "الصمود والاستدامة" ستجرى تزامناً مع المراجعة السادسة بعد دمجهما، مؤكدة أن صرف أي دفعات جديدة سيبقى مشروطاً بتنفيذ كامل للإجراءات الإصلاحية المتفق عليها، وهو ما يعني أن الأسواق، ومعها الجنيه، ستترقب ما إذا كانت حكومة الانقلاب قادرة على اجتياز هذا الاختبار ، وهو ما قد يفتح الباب أمام تدفقات جديدة تخفف الضغوط، أو تعيد العملة إلى دائرة القلق إذا ما تأخر الصرف أو تعثر التنفيذ".
صندوق النقد
في هذا السياق قال الخبير الاقتصادي وائل النحاس: إن "الجنيه ماض حالياً في نطاق عرضي وهو نطاق سعري يتوقع أن يستمر حتى فبراير 2026، موضحا أن هناك مؤثرات في هذا الأداء، على رأسها الموقف من صندوق النقد الدولي في ضوء المراجعتين المنتظرتين المقررتين خلال أسابيع لالتزام حكومة الانقلاب بالاتفاق مع المؤسسة الدولية".
وأعرب النحاس في تصريحات صحفية عن قلقه من التصريحات السلبية الأخيرة التي طالبت بإنهاء التعاون مع صندوق النقد الدولي وتبني برنامج وطني للإصلاحات الاقتصادية، محذرا من أن دعوات كهذه تعتبر رسائل سلبية يتلقاها الصندوق بمزيد من القلق حيال موقف الانقلاب وعدم جاهزيته لاستكمال البرنامج مع تلك المؤسسة.
وأشار إلى أنه في أغسطس الماضي قرر صندوق النقد الدولي دمج المراجعتين الخامسة والسادسة لبرنامج دعم مصر المالي بقيمة 8 مليارات دولار، للخريف المقبل، وسط تقارير عن عدم وفاء حكومة الانقلاب بالتزاماتها ضمن البرنامج المتفق عليه من إصلاحات اقتصادية .
وأوضح النحاس، أنه سيترتب على المراجعتين المقبلتين مع صندوق النقد الدولي موقف المستثمرين الأجانب من ضخ الاستثمارات في أدوات الدين الحكومية بدءاً من نوفمبر المقبل، لكن هناك عاملاً آخر محدداً لسلوك الجنيه أمام الدولار.
الأموال الساخنة
وتوقع أن يرتفع في نهاية نوفمبر ومطلع ديسمبر المقبلين طلب المستوردين على الدولار لاستيراد مستلزمات شهر رمضان المبارك، وهو ما سيمثل أول اختبار حقيقي للطلب على الدولار في السوق المصرية، مشيراً إلى أن هذا التوقيت موعد لخروج أرباح الشركات الأجنبية، وفاتورة الغاز المتوقعة شتاءً، وكلها اختبارات لقوة أو ضعف الجنيه، خصوصاً أن الفترة الماضية لم تشهد طلباً حقيقياً على الدولار الأمريكي.
وحذر النحاس من أن حكومة الانقلاب بما لديها من وفرة دولارية حالياً نتيجة بعض الاستثمارات غير المباشرة والأموال الساخنة قد تكون أمام اختبار صعب، مشيرا إلى أن هذا الصنف من الاستثمارات يأتي في لحظة وقد يتبخر أيضاً في لحظة، ومن ثم في حال تبخره قد يخلف أثراً فورياً في الجنيه مشابهاً للتعويم من جهة قوته.
مُسكّنات
حول الأموال الساخنة التي تضخمت داخل السوق المصرية، قالت الخبيرة الاقتصادية نيرمين طاحون مدير الشؤون القانونية لوحدة المشاركة بين القطاعين العام والخاص بوزارة مالية الانقلاب سابقا: إن "حجم هذه التدفقات يتراوح حالياً ما بين 38 و46 مليار دولار، لكنها لا تعد مؤشر قوة بقدر ما تمثل عبئاً ثقيلاً على الاقتصاد الوطني".
وكشفت نيرمين طاحون في تصريحات صحفية أن الفوائد السنوية المستحقة عن تلك المبالغ تتراوح ما بين 9 و14 مليار دولار، أي ما يعادل 442 إلى 664 مليار جنيه سنوياً، مما يضع دولة العسكر أمام معضلة مزدوجة: فدفع الفوائد بالعملة المحلية عبر التوسع النقدي يهدد بزيادة التضخم وتآكل قيمة الجنيه، بينما سدادها بالدولار يستنزف جزءاً كبيراً من الاحتياط الأجنبي ويضغط على قدرة دولة العسكر في تلبية التزاماتها وسداد فاتورة الواردات.
وحذرت من أن خطورة هذه التدفقات تتضاعف في ظل تجاوز السيولة المتداولة داخل مصر حاجز 12 تريليون جنيه، مما يجعل أي زيادة إضافية في الكتلة النقدية سبباً مباشراً في تفاقم التضخم وفقدان الثقة بالعملة.
واعتبرت نيرمين طاحون أن الأموال الساخنة مجرد "مسكن قصير المدى"، يترك الاقتصاد في حال هشاشة مستمرة، مؤكدة أن الحل الحقيقي يكمن في تشجيع الاستثمار المباشر، وتعزيز الصناعة الوطنية، وزيادة الصادرات باعتبارها مصادر أكثر استدامة للنقد الأجنبي.
وطالبت حكومة الانقلاب بوضع خطة مستقبلية لا تعتمد على هذه التدفقات القصيرة الأجل، مشددة على أن الأولوية في المرحلة المقبلة يجب أن تكون لتعزيز الاستثمار المباشر ودعم القطاعات الإنتاجية لبناء اقتصاد أكثر صلابة واستقراراً.