منذ انقلاب 23 يوليو 1952، لم تكن الثقافة في مصر سوى عبء في نظر الأنظمة العسكرية المتعاقبة، تُدار بعقلية أمنية لا تؤمن بحرية الفكر، ولا ترى في الفن والمعرفة سوى أدوات للمراقبة أو الترويض، ومع انقلاب السفيه عبد الفتاح السيسي، دخلت البلاد مرحلة جديدة باتت فيها مؤسسات الثقافة تُقوَّم بميزان الربح والخسارة، لا بمدى مساهمتها في تشكيل الوعي الجمعي أو محاربة التطرف.
إغلاق مقنّع باسم "التطوير"
خلال الأسبوعين الماضيين، تفجّرت حالة من الجدل بعد تقارير عن خطة لإغلاق أكثر من 100 مقر لقصور الثقافة في مختلف المحافظات، وإعادة توزيع العاملين فيها، ضمن خطة هيكلية تمتد لخمس سنوات لم تُعتمد بعد رسمياً، رغم نفي وزير الثقافة أحمد هنو وجود نية للإغلاق، ووصفه ما يجري بأنه "رفع كفاءة"، إلا أن الخطوات الفعلية تؤكد العكس.
فالوزير نفسه صدّق في مارس الماضي على محضر اجتماع للهيئة العامة لقصور الثقافة يقضي بإخلاء المقرات المؤجرة التي تقرر إغلاقها، وتكليف رؤساء الأقاليم الثقافية بإعادة توزيع العاملين فيها قبل نهاية مايو 2025، تمهيداً لـ"العرض على الوزير"، ما يكشف أن القرارات جارية على قدم وساق.
عسكرة الثقافة: من لواء إلى رأس الهيئة
في مؤشر آخر على تهميش الثقافة كرسالة معرفية، جاء تكليف اللواء خالد اللبان، مساعد وزير الثقافة، برئاسة الهيئة العامة لقصور الثقافة، ليكرّس نمطاً معروفاً منذ عقود، إحلال القيادات العسكرية محل الخبراء والمتخصصين.
وبدلاً من أن تتجه الوزارة لتعزيز دور هذه القصور كحصون في مواجهة التطرّف والجهل، يجري التعامل معها كأعباء مالية يمكن تحويلها إلى حضانات أطفال أو قاعات مناسبات.
النائب البرلماني إيهاب منصور كشف في مداخلة برلمانية عن نية تحويل بعض القصور إلى أنشطة غير ثقافية بالتعاون مع وزارة التضامن، في خطوة وصفها النائب فريد البياضي بـ"تفريغ الثقافة من مضمونها".
ثقافة لا تدرّ ربحاً
هذا النهج ليس وليد اللحظة، بل يعكس فلسفة السيسي القائمة على تقديس الربح كمقياس وحيد لتقييم أي مؤسسة، بما فيها مؤسسات الفكر والفن، فأصبحت قصور الثقافة، التي يفترض أن تكون الملاذ الأخير لملايين المصريين في الأقاليم، تُقاس جدواها بعدد الحضور أو مردودها المالي، لا بأثرها التراكمي في رفع الوعي العام.
الفنانة التشكيلية إنجي عبد المنعم شددت على أهمية تطوير هذه القصور وليس هدمها، معتبرة أن الحل يكمن في تبني أفكار إبداعية تواكب العصر الرقمي، بينما رأى الناقد المسرحي عمرو نوارة أن ما يحدث يعيد إلى الأذهان ما قيل سابقاً عن "المسرح العائم" عندما هدد بالإغلاق ثم عاد بعد ضغوط. أما المخرج مارك صفوت، فأقر بضعف بعض البنى التحتية، لكنه طالب بالإصلاح لا الهدم.
هل تُطفأ أنوار 500 قصر ثقافي؟
رغم ما سبق، لا تزال هناك جهود لبناء قصور جديدة، حيث تم افتتاح عدد منها في أسوان وسوهاج والقاهرة، ويجري العمل على افتتاح أخرى في المنيا وسيناء، غير أن هذا لا يغيّر من الصورة العامة: النظام يرى الثقافة عبئاً ما لم تكن مربحة، وهو توجه يحمل في طياته تهديداً لما تبقى من مظاهر مقاومة في الأقاليم البعيدة عن العاصمة.
في النهاية، يبدو أن معركة الثقافة في مصر ليست فقط مع الفقر أو الإهمال، بل مع نظام يرى في القصور الثقافية عبئاً مالياً، لا حصناً ضد الجهل والتطرف، فهل نرى مستقبلاً تُستبدل فيه المسارح والفصول الفنية بقاعات أفراح وحضانات؟، أم تتغير البوصلة ويُعاد الاعتبار للثقافة كحق أصيل لكل مواطن؟