قانون بلا بعد اجتماعي و دولة غائبة.. الإيجار الجديد أزمة معيشية تتفاقم تحت حكم السيسى

- ‎فيتقارير

بينما تنشغل السلطة المصرية بالملفات الإقليمية وتصدر مشهد الحرب على غزة واجهة الخطاب الرسمي، تتفاقم في الداخل المصري واحدة من أخطر الأزمات الاجتماعية والمعيشية، وهي أزمة السكن، التي تحولت من مشكلة اقتصادية إلى أداة طرد قسري للسكان، غيّرت بالفعل الخريطة العمرانية والاجتماعية للمدن الكبرى.
قصة خالد، مهندس البرمجيات الثلاثيني الذي ارتفع إيجار شقته في التجمع الخامس من 8 آلاف إلى 14 ألف جنيه خلال عام واحد، ليست استثناءً، بل نموذج صارخ لواقع يعيشه ملايين المصريين. فالقانون، كما يقول، “يحمي المالك ويترك المستأجر وحيداً في مواجهة تضخم لا يُحتمل”، في ظل غياب أي تدخل حكومي يوازن العلاقة بين طرفي المعادلة.
سياسات صنعت الأزمة
لم تكن القفزات الجنونية في أسعار الإيجارات قدراً محتوماً، بل جاءت نتيجة مباشرة لسياسات حكومة الانقلاب التي رفعت يدها عن تنظيم سوق الإيجارات الجديدة، وسمحت بتحويل السكن إلى سلعة استثمارية بحتة، وركّزت الإنفاق العام على مشروعات فاخرة تخدم شرائح محدودة، مقابل تجاهل شبه كامل لحق السكن اللائق لذوي الدخل المتوسط والمحدود.
ومع ارتفاع أسعار التمليك إلى ملايين الجنيهات، حتى في الأحياء الشعبية، أُجبر الشباب المقبلون على الزواج على اللجوء إلى الإيجار الجديد، ليجدوا أنفسهم في سوق متوحش بلا ضوابط، حيث يُفرض عليهم إما القبول بزيادات خيالية أو المغادرة.
أرقام تكشف عمق المأساة
تُظهر بيانات الربع الثالث من عام 2025 أن إيجارات الشقق في الأحياء الراقية بالقاهرة تتراوح بين 18 و35 ألف جنيه، وفي الأحياء المتوسطة بين 8 و14 ألفاً، بينما وصلت في المناطق الشعبية إلى 4–7 آلاف جنيه، وذلك في وقت بلغ فيه سعر الدولار نحو 47.6 جنيه، وتآكلت فيه الأجور الحقيقية للمواطنين إلى مستويات غير مسبوقة.
تهجير داخلي وتفكك اجتماعي
تروي سلمى أيوب، معلمة من الإسكندرية، كيف اضطرت لمغادرة شقتها في حي سموحة بعد رفع الإيجار من 7500 إلى 16 ألف جنيه، لتنتقل إلى منطقة نائية تستغرق منها ساعات يومياً للوصول إلى عملها. أما الطبيب الشاب محمد فتحي، فيصف حال جيله قائلاً: “كل عقد إيجار هو بداية جديدة من الصفر… كأننا لاجئون داخل وطننا”.
ويرى خبراء اجتماع أن هذه الظاهرة لا تطرد الأفراد فقط، بل تُفكك النسيج الاجتماعي للأحياء، وتحول المدن إلى جيوب طبقية مغلقة، ما ينذر بتوترات اجتماعية خطيرة على المدى المتوسط.
قانون بلا بعد اجتماعي… ودولة غائبة
ورغم تمرير تعديلات قانون الإيجار القديم ومنح مهلة انتقالية قبل الإخلاء، فإن الحكومة تركت سوق الإيجارات الجديدة بلا أي تنظيم، مانحة الملاك حرية مطلقة في تحديد الأسعار، دون سقوف للزيادات أو ارتباط بمعدلات الأجور والتضخم.
هذا الغياب لا يبدو عجزاً بقدر ما يعكس أولوية سياسية واضحة: حماية بقاء الحكم العسكري، ومطاردة النشطاء والمعارضين، على حساب حماية الحقوق الاجتماعية الأساسية، وفي مقدمتها الحق في السكن.
بين غزة والداخل المنسي
وفي الوقت الذي تُرفع فيه شعارات التضامن مع غزة، وتُستثمر الحرب سياسياً وإعلامياً، يعيش ملايين المصريين حرباً يومية من نوع آخر؛ حرب الإيجار، والطرد، وعدم الاستقرار. فالدولة التي تدّعي الانشغال بالقضايا الكبرى، تعجز – أو تمتنع – عن التدخل لوقف نزيف اجتماعي يهدد الاستقرار الداخلي.
أزمة مرشحة للتفاقم
يتفق خبراء اقتصاد وعمران على أن الأزمة مرشحة للاستمرار، بل والتفاقم، في ظل استمرار التضخم، ونقص المعروض السكني، والقيود المفروضة على البناء، وغياب سياسات إسكان اجتماعي حقيقية للإيجار طويل الأجل.
وهكذا، لم تعد أزمة الإيجارات مسألة سوق فحسب، بل تحولت إلى عنوان صارخ لفشل نموذج حكم، انتقم من شعبه الذي ثار عليه، وتركه يواجه الغلاء والطرد والتهميش، في مشهد أشد قسوة مما سبق ثورة يناير، وبأضعاف مضاعفة.