قانون يكرّس الدولة البوليسية ..“الإجراءات الجنائية”: تقنين القمع باسم العدالة وبدائل شكلية للحبس الاحتياطي

- ‎فيتقارير

 

في خطوة أثارت غضب الحقوقيين والمراقبين، صدّق قائد الانقلاب عبد الفتاح السيسي مساء الأربعاء على قانون الإجراءات الجنائية الجديد، الذي سبق أن وافق عليه مجلس النواب في جلسته المنعقدة بتاريخ 16 أكتوبر، بعد أن زالت أسباب اعتراض السيسي عليه "استجابةً لاعتبارات الواقع العملي"، وفق بيان صادر عن مؤسسة الرئاسة.

لكن خلف العبارات القانونية المنمقة، يرى خبراء القانون أن القانون الجديد يمثل ضربة جديدة لحقوق الإنسان في مصر، ويمنح سلطات التحقيق والنيابة أدوات إضافية لسلب الحرية وتوسيع دوائر المراقبة والتجسس.

 

نصوص قانونية تُجمّل واقعاً قمعياً

 

قال بيان الرئاسة إن أبرز الأحكام المعدلة تتعلق بتأجيل تطبيق القانون إلى 1 أكتوبر/تشرين الأول 2026، لإتاحة الوقت أمام القضاة والمحامين والنيابة العامة “لاستيعاب الأحكام المستحدثة”.

كما تحدث البيان عن “ترسيخ الحماية الدستورية للمساكن” و”زيادة الضمانات للمتهمين”. غير أن الحقوقيين يرون أن هذه الصياغات تخفي وراءها ثغرات واسعة تشرعن اقتحام البيوت واستمرار الاحتجاز التعسفي.

 

فوفقاً لمركز “الحق للدراسات القانونية”، فإن المواد الجديدة الخاصة بدخول المساكن "فتحت الباب أمام التوسع في الاستثناءات"، إذ سمحت بالدخول في “حالات الاستغاثة أو الخطر أو ما شابه ذلك”، وهي عبارات فضفاضة يمكن تفسيرها أمنياً بما يخدم السلطة التنفيذية.

 

بدائل شكلية للحبس الاحتياطي

 

من بين ما رُوّج له باعتباره “تقدماً تشريعياً”، زيادة بدائل الحبس الاحتياطي من ثلاثة إلى سبعة بدائل، منها تحديد نطاق جغرافي للمتهم أو منعه من مقابلة أشخاص معينين أو استخدام وسائل تقنية لتتبعه.

لكن في رأي الحقوقي جمال عيد، فإن “هذه ليست بدائل حقيقية، بل إجراءات قمعية بواجهات قانونية، تُبقي المواطن تحت السيطرة الأمنية حتى خارج أسوار السجن”.

 

ويضيف: “النظام لا يريد تقليص الحبس الاحتياطي، بل يريد تمديده بوسائل جديدة أكثر خفاءً”.

 

“الإيداع”… الحبس الاحتياطي بثوب جديد

 

الجدل الأوسع دار حول تعديل المادة 112، التي استحدثت ما يسمى “الإيداع في مراكز الإصلاح والتأهيل” في حال تعذر استجواب المتهم لغياب محاميه.

ورغم أن النص يتحدث عن “مدة مؤقتة”، إلا أن تحالف “نحو قانون عادل للإجراءات الجنائية” يرى أن هذا الإجراء يمثل “اعتقالاً مقنعاً”، لأنه يسمح بالاحتجاز قبل التحقيق ومن دون محام، ولا تُحتسب مدته ضمن الحبس الاحتياطي لاحقاً.

 

وقالت الحملة الحقوقية في بيانها:

 

“إن تعديل المادة 112 التفاف خطير على المادة 54 من الدستور التي تحظر تقييد الحرية إلا بأمر قضائي مسبب، كما أنه يفتح الباب لإطالة فترة سلب الحرية بلا حساب”.

 

تغييب حق الدفاع… خطوة نحو “عدالة شكلية”

 

تعديل المادة 105 من القانون، الذي يقصر حضور المحامي على الحالات التي “يخشى فيها على حياة المتهم”، مثّل بحسب الحقوقيين “انتهاكاً صارخاً لحق الدفاع”.

ويقول المحامي خالد علي:

 

“القانون جعل وجود المحامي استثناءً بعد أن كان حقاً أصيلاً. فكيف يمكن الحديث عن عدالة بينما يُستجوب المتهم في غياب محاميه؟”.

 

وتؤكد منظمات حقوقية أن هذا التعديل يعزز دور الأجهزة الأمنية على حساب الضمانات الدستورية، إذ يُعطي مأموري الضبط القضائي سلطة تقديرية في استجواب المتهمين دون إشراف كافٍ من النيابة أو القضاء.

 

مراقبة الاتصالات وتوسيع أدوات التجسس

 

رغم أن اعتراضات السيسي لم تشمل المواد المتعلقة بالمراقبة والمصادرة، إلا أن هذه النصوص تمثل —وفق الحقوقيين— أخطر ما في القانون، لأنها تمنح القضاء سلطة “مصادرة الهواتف والمواقع الإلكترونية وتسجيل المحادثات الخاصة إذا لزم الأمر”، دون تحديد واضح للضوابط أو المدد.

 

ويشير مركز حرية الفكر والتعبير إلى أن هذه الصلاحيات “تفتح الباب أمام المراقبة الشاملة للمواطنين، وتحول القانون إلى أداة شرعنة لانتهاك الخصوصية”.

 

اللجنة العليا لحقوق الإنسان… واجهة لتجميل الانتهاكات

 

اللافت أن القانون تضمّن مادة تقول إنه يستجيب لتوصيات "اللجنة العليا الدائمة لحقوق الإنسان" بوزارة الخارجية، بشأن عرض قضايا الحبس الاحتياطي دورياً على النائب العام.

لكن ناشطين وصفوا ذلك بأنه “ديكور حقوقي”، لأن القانون لم يفرض سقفاً زمنياً للإفراج عن المحبوسين احتياطياً، بل أبقى الباب مفتوحاً للتمديد بحجج شكلية.

 

ويقول أحد الحقوقيين الذين فضلوا عدم ذكر اسمه:

 

“اللجنة مجرد واجهة لتجميل وجه النظام أمام المجتمع الدولي. أما الواقع فهو استمرار احتجاز آلاف المعارضين بلا محاكمة عادلة”.

 

صمت البرلمان… وتواطؤ القضاء

 

لم تُبدِ لجنة الشؤون التشريعية في مجلس النواب أي اعتراض يُذكر على المواد المثيرة للجدل، ما يعكس —بحسب مراقبين— تواطؤاً مؤسسياً في تمرير التشريعات التي تعزز سلطات النظام على حساب المواطنين.

ويؤكد أستاذ القانون الدستوري السابق الدكتور محمد محسوب أن “القانون الجديد ليس تطويراً للإجراءات، بل تدميراً لما تبقّى من الضمانات القانونية التي تميز الدولة من دولة الأجهزة الأمنية”.

 

خلاصة: تقنين القمع باسم “الإصلاح”

 

رغم الزعم بأن القانون الجديد جاء لتحديث منظومة العدالة، إلا أن محتواه يعكس —بحسب الحقوقيين— توجهاً ممنهجاً نحو شرعنة القمع وتجميل وجه النظام القائم.

فبدلاً من تقليص صلاحيات الاحتجاز، أوجد النظام بدائل تزيد من طول فترة سلب الحرية.

وبدل أن يضمن حق الدفاع، جعل وجود المحامي مشروطاً.

وبدل أن يحد من الرقابة، وسّع صلاحيات المراقبة والتجسس.

إنه قانون يكرّس الدولة البوليسية لا دولة القانون.