في مجتمعٍ يكرّم المرأة كأمٍ وأختٍ وزوجة، ويصون كرامتها كإنسانة، تقف الحقوقية المصرية هدى عبد المنعم شاهدةً على مدى انحدار القيم تحت حكمٍ عسكريٍ بوليسيٍ لا يعرف حرمة لسنٍ أو لمكانةٍ أو لرسالةٍ سامية.
سبع سنوات كاملة تقضيها هذه المحامية المسنّة خلف القضبان، لا لجرمٍ ارتكبته، بل لأنها آمنت بأن الدفاع عن المظلومين واجب إنساني وإيماني قبل أن يكون مهنة.
في الأول من نوفمبر/تشرين الثاني 2018، اقتحمت قوات الأمن منزلها في القاهرة دون إذن قضائي، واصطحبتها إلى مصيرٍ مجهول، لتختفي قسريًا 21 يومًا قبل أن تُعرض أمام نيابة أمن الدولة العليا، وتُلفّق لها تهمٌ جاهزة: “الانضمام إلى جماعة إرهابية” و“نشر أخبار كاذبة”.
تلك التهم التي تحولت في عهد السيسي إلى سلاحٍ لتصفية كل صوتٍ حر، وكل قلبٍ لا يخشى قول الحقيقة.
لم تكتف السلطة باعتقالها، بل جعلت منها نموذجًا للردع. خمس سنوات من الحبس الاحتياطي غير القانوني انتهت بحكمٍ جائر من محكمة أمن الدولة طوارئ في مارس/آذار 2023 بالسجن خمس سنوات أخرى، في محاكمةٍ افتقرت لكل معايير العدالة.
ورغم انقضاء مدة الحكم في أكتوبر/تشرين الأول 2023، لم تجد الحرية طريقها إلى زنزانتها، بل جرى "تدويرها" في قضايا جديدة بذات الاتهامات، في انتهاكٍ فاضحٍ لمبدأ "عدم محاكمة الإنسان على الجرم نفسه مرتين".
امرأة تصارع الموت في صمت السجن
تعيش هدى عبد المنعم اليوم مأساة إنسانية بكل معنى الكلمة.
جسدٌ أنهكته الجلطات وأمراض القلب والكلى، حتى توقفت كليتها اليسرى عن العمل، وتعجز عن المشي من آلام المفاصل التي تحتاج لجراحة عاجلة.
في أغسطس/آب 2025، أصيبت بأزمتين قلبيتين متتاليتين خلال أسبوع واحد، ولم تتلقَّ الرعاية الطبية اللازمة.
كل ذلك لم يحرّك ضمير نظامٍ يتعامل مع المعارضين كأعداءٍ لا كبشرٍ لهم حق الحياة.
إنها ليست مجرد حالة اعتقال، بل عقوبة انتقامية على ممارسة الحق في الدفاع عن الآخرين، في بلدٍ يُفترض أنه مسلمٌ شرقيٌ يقوم على قيم العدل والرحمة واحترام المرأة.
لكن النظام العسكري في مصر قلب هذه القيم رأسًا على عقب، فحوّل المحاكم إلى أدوات انتقام، والسجون إلى مقابر للأحياء.
تحرك دولي.. وصمت رسمي
قضية هدى عبد المنعم لم تعد شأنًا داخليًا.
ففي فبراير/شباط 2022، أبدت آليات الأمم المتحدة، من المقرر الخاص بالمدافعين عن حقوق الإنسان إلى الفريق المعني بالاحتجاز التعسفي، قلقها البالغ من استمرار احتجازها، مطالبة بالإفراج الفوري عنها.
وفي يناير/كانون الثاني 2025، جدّدت المفوضية السامية لحقوق الإنسان تحذيرها من إساءة استخدام قانون مكافحة الإرهاب لتجريم العمل الحقوقي السلمي.
كما أدرج البرلمان البلجيكي قضيتها في قراره عن وضع الحريات في مصر، وعبّر البرلمان الأوروبي في ديسمبر/كانون الأول 2024 عن قلقه العميق من قمعها المتواصل.
“سبع سنوات من الظلام”.. شهادة ابنتها
في رسالة مؤثرة، روت ابنتها فدوى خالد مأساة الأسرة:
https://www.facebook.com/fadwa.k.badawy/posts/10172686787700576?ref=embed_post
“في مثل هذا اليوم، قبل عامين، زيّنا البيت وانتظرنا فرحة العمر.. أمي أنهت الخمس سنوات وستعود إلينا. فجأة جاء اتصال: أمي في نيابة أمن الدولة! لقد أعيد تدويرها في قضية جديدة. ثم أخرى!
أظلم كل شيء من حولنا، وانطفأت الأنوار في بيتنا، وانكسرت قلوبنا… سبع سنوات من الوجع والقهر والركض بين السجون والنيابات.”
كلمات فدوى تختصر مأساة آلاف الأسر المصرية التي تدفع ثمن صوتٍ قال “لا” في وجه الطغيان.
رمز للكرامة والصمود
هدى عبد المنعم، المحامية والعضو السابق في المجلس القومي لحقوق الإنسان، والحاصلة على جائزة الدفاع عن حقوق الإنسان من مجلس نقابات المحامين الأوروبيين عام 2020، تمثل اليوم رمزًا لصمود المرأة المصرية الحرة في وجه القهر، ونموذجًا لإنسانةٍ لم تتخلَّ عن ضميرها رغم القيود والآلام.
قضيتها ليست استثناءً، بل مرآة لبلدٍ يعيش فيه الشرفاء خلف القضبان، والمجرمون في مواقع السلطة.
هي صوت الحرية الذي حاولوا خنقه، لكنه ما زال يتردد في ضمير كل إنسان حر.
نداء الحرية
تطالب حملة "الحرية لهدى عبد المنعم" ومعها عشرات المنظمات الحقوقية المحلية والدولية — منها العفو الدولية، والمبادرة المصرية للحقوق الشخصية، ومركز النديم، والتحالف الإقليمي للمدافعات عن حقوق الإنسان — بالإفراج الفوري وغير المشروط عنها، وتمكينها من العلاج، والسماح للآليات الأممية بمتابعة حالتها.
كما تدعو إلى إنهاء مسلسل “التدوير” واستخدام القضاء كأداة للبطش، ووضع حدٍّ لاستخدام القوانين الاستثنائية لإسكات الأصوات المستقلة.
إن قضية هدى عبد المنعم ليست فقط قضية امرأة خلف القضبان، بل قضية كرامة وطنٍ كامل، يُهان فيه الشرفاء وتُكافأ أدوات القمع.
وفي كل يومٍ تمضيه هذه السيدة المسنّة في سجنها، تُدان منظومةٌ كاملة من الظلم والخذلان، ويُختبر ضمير الأمة أمام امرأةٍ واجهت الموت ولم تتراجع عن قول كلمة الحق.