في الوقت الذي تعيش فيه مصر أزمة اقتصادية غير مسبوقة، تسعى سلطة الانقلاب بقيادة عبدالفتاح السيسي إلى إعادة صياغة “وثيقة ملكية الدولة” بما يفتح الباب واسعًا أمام بيع ما تبقى من أصول مصر الاستراتيجية تحت لافتة “جذب الاستثمار” و”تعظيم دور القطاع الخاص”، بينما يرى معارضون أن ما يجري ليس سوى تصفية ممنهجة للقطاع العام وتفريط منظم في ملكية الدولة لصالح رأس المال الخليجي، وخاصة الإمارات، التي تقوم بدور الوكيل الاقتصادي للكيان الصهيوني في المنطقة.
وخلال اجتماع اللجنة العليا لوثيقة الملكية، أعلن أسامة الجوهري، رئيس مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار بمجلس الوزراء، عن تعديلات جديدة تمنح “الاستثمارات الخاصة في الشركات المملوكة للدولة أولوية على بيع الأصول”، وتفرض “قيودًا على إنشاء شركات حكومية جديدة”، بزعم “تحسين كفاءة الإدارة وتعظيم العائد”.
إلا أن تلك العبارات الرنانة – وفق اقتصاديين – تخفي جوهر التوجه الجديد: انسحاب الدولة من النشاط الاقتصادي وبيع ما تبقى من أصولها السيادية.
من وثيقة ملكية إلى وثيقة تصفية
الاجتماع الذي شارك فيه رئيس الوزراء مصطفى مدبولي و8 وزراء، جاء بعد ثلاث سنوات من تدشين الوثيقة الأولى في 2022، وهي الوثيقة التي دشنت رسميًا مرحلة التخارج من ملكية الدولة وبدأت طرح شركاتها في البورصة وأمام مستثمرين أجانب، تمهيدًا لخصخصة ممتلكات الشعب المصري.
النسخة الجديدة من الوثيقة – كما يصفها مراقبون – لا تختلف في جوهرها، بل تؤكد مواصلة النهج ذاته نحو تسليم مفاتيح الاقتصاد المصري لصناديق الثروة السيادية الخليجية، التي تسيطر فعليًا على قطاعات النقل والطاقة والموانئ، في مشهد يرى فيه معارضون “تحويل مصر إلى تابع اقتصادي للمال الخليجي الممول والموجه سياسيًا”.
تجميل للخصخصة.. واستمرار للتفريط
بعض الخبراء حاولوا تبرير التعديلات بالقول إن “الشراكة مع القطاع الخاص أفضل من البيع الكامل”، لكن آخرين وصفوا ما يحدث بأنه تجميل لفظي لعملية الخصخصة.
فالوثيقة لا تزال تنص على تخلي الدولة عن استثماراتها في 79 نشاطًا إنتاجيًا وخدميًا تشمل الزراعة والصناعات الثقيلة والجلود والزجاج والأسمدة، مع الإبقاء على مشاركة شكلية في قطاعات أخرى، بينما تواصل الترويج لـ"إشراك القطاع الخاص" في قطاعات استراتيجية كالكهرباء والنقل والمياه.
وتأتي هذه الخطوات تنفيذًا لشروط صندوق النقد الدولي، الذي ألزم القاهرة منذ 2021 ببرنامج "التخارج الكامل للدولة من النشاط الاقتصادي"، مقابل قروض جديدة أغرقت البلاد في دوامة ديون تجاوزت 168 مليار دولار بحلول منتصف 2025.
خصخصة فاشلة وتجارب مريرة
تاريخ الخصخصة في مصر ليس جديدًا، إذ بدأ منذ تسعينيات القرن الماضي في عهد مبارك، وأدى إلى تفكيك القطاع العام وتسريح مئات الآلاف من العمال، وسط فضائح فساد ورشاوى، وهي نفس المخاوف التي تتجدد اليوم.
ورغم الدعاية الحكومية المكثفة لبرنامج الطروحات، فإن النتائج كانت هزيلة:
فوفق بيانات رسمية، جمعت الحكومة 48% فقط من مستهدفها المالي خلال ثلاث سنوات، بينما لم تنجح في تحسين النمو الاقتصادي الذي انخفض إلى 4.4%، ولم تغطِ العائدات حتى جزءًا يسيرًا من خدمة الدين الخارجي المتصاعد.
الاقتصاد في قبضة الإمارات
ويرى محللون أن الإمارات أصبحت المستفيد الأول من سياسة بيع الأصول المصرية، إذ استحوذت صناديقها الاستثمارية على حصص مؤثرة في موانئ وشركات غاز واتصالات وبنوك، ما يجعلها الوصي الفعلي على القرار الاقتصادي المصري.
ويحذر اقتصاديون من أن تلك السيطرة تتقاطع مع المصالح الإسرائيلية في البحر الأحمر وشرق المتوسط، حيث تلعب أبوظبي دور الوسيط والممول لمشروعات الطاقة والنقل المشتركة مع تل أبيب.
انهيار الأصول العامة.. وصعود الكيانات العسكرية والخليجية
تقرير حكومي كشف أن عدد الشركات المملوكة للدولة انخفض من 709 إلى 561 شركة خلال عام واحد فقط، نتيجة البيع والدمج والتصفية.
وفي المقابل، تتوسع إمبراطورية الجيش الاقتصادية بلا قيود، إلى جانب التمدد الإماراتي في مجالات البنية التحتية والطاقة والموانئ، ما يجعل الدولة – نظريًا – “منسحبة” بينما تحتفظ مؤسساتها الأمنية والعسكرية بالسيطرة الحقيقية.
رسائل إلى الصندوق وليس إلى المصريين
ويؤكد الخبير الاقتصادي عبدالنبي عبدالمطلب أن هذه التعديلات ليست إصلاحًا حقيقيًا بل رسالة سياسية إلى صندوق النقد الدولي لإثبات التزام القاهرة بتعهداتها السابقة.
وقال إن “الوثيقة لم تكن يومًا برنامجًا اقتصاديًا وطنيًا، بل كانت مجرد ورقة تفاوض للحصول على قروض جديدة”، مضيفًا أن “الحديث عن دعم القطاع الخاص مجرد غطاء لتمرير عملية بيع ما تبقى من أصول الدولة”.
مصر تُباع على أقساط
وبينما ترفع الحكومة أسعار الوقود وتفرض مزيدًا من الضرائب على المواطنين، تواصل تقديم التسهيلات للمستثمرين الخليجيين والأجانب، وتعرض شركات القطاع العام في البورصة بأسعار متدنية تعكس حالة الانهيار الاقتصادي.
ويرى معارضون أن ما يجري هو “بيع مصر على أقساط”، وأن وثيقة ملكية الدولة في نسختها المعدلة ليست سوى المرحلة الثانية من مخطط تفكيك الاقتصاد الوطني لصالح شبكات مصالح إقليمية ترتبط أمنياً واقتصادياً بالكيان الصهيوني عبر البوابة الإماراتية.