تظهر الموازنة الجديدة لمصر في ظل نظام الانقلاب بقيادة السفيه السيسى كأنها محاولة للبقاء المالي بأي ثمن، دون معالجة حقيقية لجذور الأزمة. في ظل استمرار الاعتماد على الديون، وغياب خطة تنموية واضحة، تبدو كلفة السياسات الاقتصادية الحالية مرشحة للتصاعد، ولا يدفع ثمنها سوى المواطن، الذي يجد نفسه في قلب عاصفة التقشف، والغلاء، والضرائب، دون أفق للخروج من الأزمة.
فقد كشفت البيانات الصادرة عن الحساب الختامي لموازنة مصر للعام المالي 2023/2024، ومشروع موازنة العام الجديد 2025/2026، عن مؤشرات اقتصادية توصف بالكارثية، أثارت قلقاً واسعاً بين الخبراء والمتابعين. فقد ارتفع الدين العام الحكومي إلى مستويات غير مسبوقة، مسجلاً نحو 11.4 تريليون جنيه (ما يعادل 223.5 مليار دولار)، مقارنة بـ8.6 تريليونات جنيه فقط في يونيو/حزيران 2023، أي بزيادة قدرها 2.8 تريليون جنيه خلال عام واحد، بنسبة نمو بلغت 33.1%.
ويأتي ذلك في وقتٍ تواجه فيه الدولة أزمة مزمنة في إدارة الدين العام، حيث باتت خدمة الدين تستنزف أكثر من 60% من استخدامات الموازنة، منها 1.355 تريليون جنيه فوائد، و1.283 تريليون جنيه أقساط.
انعدام رؤية حقيقية لإدارة المالية العامة
الخبير الاقتصادي ممدوح الولي اعتبر أن هذه الأرقام "تعكس انعدام رؤية حقيقية لإدارة المالية العامة، وغياب أي مسعى جاد للإصلاح البنيوي"، مشيراً إلى أن "الاعتماد المفرط على القروض، وبيع الأصول، وزيادة الضرائب، يشير إلى إفلاس حكومي في أدوات السياسة المالية".
احتياجات تمويلية غير مسبوقة
وبحسب مشروع الموازنة الجديدة، رفعت الحكومة احتياجاتها التمويلية إلى 3.6 تريليونات جنيه، لسداد القروض وتغطية عجز الموازنة، وسط انتقادات لجوئها إلى حلول وصفها خبراء بأنها "قصيرة الأجل ومكلفة سياسياً واجتماعياً".
حزمة من الإجراءات القاسية
1. زيادة الضرائب:
تستهدف الحكومة زيادة حصيلة الضرائب على السلع والخدمات بنسبة 34.4%، لتصل إلى 1.103 تريليون جنيه، مع زيادة ضريبة القيمة المضافة بنسبة 50.2%. ووفقاً لمشروع قانون قدمه حزب "مستقبل وطن"، ستُلغى إعفاءات ضريبية عن 19 سلعة أساسية، استجابة لتوصيات صندوق النقد الدولي.
2. زيادة الرسوم الحكومية:
يشهد المواطن سنوياً زيادات متكررة في رسوم المرور، والسجل المدني، والشهر العقاري، وغيرها من الخدمات الأساسية، في ظل غياب أي تحسين ملموس في مستوى الأداء الحكومي.
3. بيع أصول الدولة:
تستعد الحكومة لبيع أصول استراتيجية، منها بنك القاهرة، وشركات قطاع عام، ضمن خطة لتوفير سيولة سريعة، رغم ما تثيره هذه السياسات من مخاوف حول التفريط في مقدرات الدولة.
4. بيع أراضي الدولة:
يتكرر سيناريو بيع الأراضي كما حدث في مشروع رأس الحكمة الذي بيع للإمارات بـ35 مليار دولار، وسط غياب رقابة برلمانية أو شعبية على الشروط.
5. الاقتراض المحلي:
تلجأ الدولة إلى الاقتراض الداخلي عبر أذون وسندات الخزانة، مع الإبقاء على أسعار فائدة مرتفعة، لضمان جذب الأموال رغم آثارها التضخمية.
6. مزيد من القروض الخارجية:
تستهدف الحكومة اقتراض 400.46 مليار جنيه من الخارج، مقابل 140 ملياراً في الموازنة الحالية، ما يعمق الارتهان لصندوق النقد والبنك الدوليين. وتشير الأرقام إلى أن مصر سددت نحو 117 مليار دولار خلال خمس سنوات فقط.
7. خفض الدعم:
تتجه الحكومة لتقليص دعم الوقود والسلع التموينية، بما في ذلك رغيف الخبز، ما ينذر بموجات تضخم جديدة تضرب الفئات الأكثر هشاشة.
8. خصخصة التعليم والصحة:
تشهد قطاعات حيوية مثل التعليم والصحة خصخصة متسارعة، من خلال بيع مستشفيات عامة، والتوسع في الجامعات الخاصة، ما يرفع كلفة التعليم والعلاج.
9. تقليص الإنفاق العام:
رغم التزامات دستورية، تُقلص الحكومة الإنفاق على التعليم والصحة والبحث العلمي، في مخالفة صريحة للدستور، وفق تقارير رقابية.
10. الاعتماد على الأموال الساخنة:
تستهدف الدولة جذب الأموال الساخنة التي تجاوزت 41 مليار دولار، رغم التحذيرات من أثرها السلبي على استقرار سوق الصرف وأسعار السلع.
اقتصاد بلا رؤية إنتاجية
ويقول د. وليد جاب الله، أستاذ التمويل العام، إن “مصر أصبحت تدير اقتصادها بعقلية إدارة الديون لا التنمية، حيث تحولت الموازنة العامة إلى دفتر حسابات ديون لا خطط إنتاج”، مشدداً على أن “العلاج الحقيقي يبدأ من الحد من الإنفاق غير المنتج، وإعادة هيكلة الأولويات”.
ويضيف رجل الأعمال المصري المقيم في الولايات المتحدة، م. هشام الشناوي، أن "القطاع الخاص فقد الثقة في بيئة الاستثمار المحلية، نتيجة تغوّل الدولة، وغياب الشفافية، والسياسات الضريبية المتقلبة".