مع ارتفاع الأسعار وتراجع مستوى المعيشة وتزايد معدلات الفقر بين المصريين، تلجأ حكومة الانقلاب إلى شو إعلامي، من أجل الضحك على المواطنين والزعم أنها تعمل من أجل مصلحتهم وتعلن عن زيادة الحد الأدنى للأجور، لكن هذا الحد الأدنى لا يلبي أقل الاحتياجات المعيشية ويدخل في سباق غير متكافئ مع ارتفاع الأسعار وتراجع القدرة الشرائية .
الزيادات التي تُعلنها حكومة الانقلاب ليست أكثر من محاولات لمجاراة تضخم يلتهم الدخل قبل أن يصل إلى جيوب المواطنين، في معركة غير متكافئة بين الأجور والأسعار ومع تراجع القوة الحقيقية للجنيه، تحوّلت الزيادات إلى مجرد تعويض نظري عن خسائر فعلية.
كان المجلس القومي للأجور قد أعلن عن رفع الحد الأدنى للأجور من 6,000 جنيه إلى 7,000 جنيه، على أن يبدأ تطبيق القرار اعتبارًا من 1 مارس 2025، كما قرر المجلس تحديد العلاوة الدورية للعاملين في القطاع الخاص بنسبة 3% من أجر الاشتراك التأميني، على ألا تقل عن 250 جنيهًا شهريًا .
الفصل من العمل
حول هذه الزيادات قال عامل أربعيني في مصانع سيراميك: “لم أحصل حتى على 6000 جنيه، فكيف أفرح برفع الحد الأدنى إلى 7000؟”.
وأضاف العامل، الذي فضّل عدم ذكر اسمه خشية فقدان وظيفته: أعمل منذ سبع سنوات في المصنع، ورغم خبرتي لم يصل راتبي إلى الحد الأدنى المعلن، بينما تتزايد نفقات أسرتي .
وأكد أنه يكافح لتغطية احتياجات طفلين، أحدهما في المدرسة والآخر لم يكمل عامه الرابع، لافتا إلى أن فاتورة الكهرباء تستهلك نصف المرتب، والإيجار يتزايد، ومتطلبات المدارس أصبحت عبئًا لا يُحتمل.
وأشار إلى أن ميزانية الطعام لم تعد تكفي سوى الضروريات، فاللحوم رفاهية والدواجن تُشترى بحساب دقيق، أما الفاكهة فلا تُشترى إلا في المناسبات.
وكشف أنه رغم الضغوط، لا يستطيع الاعتراض أو المطالبة برفع أجره، لأن هناك طوابير تنتظر وظيفته حتى براتب أقل، مؤكدا أنه لو طالب بتحسين الأجور سيكون مصيره الفصل من العمل.
خط أحمر
وقال أحمد سعيد عامل : “أعيش في شقة متواضعة بالإيجار مع زوجتي وأطفالي الثلاثة، اثنان منهم في المرحلة الابتدائية، بينما لا يزال الثالث رضيعًا”.
وأضاف : كل شهر، أسأل نفسي كيف سنكمل الأيام القادمة في ظل تزايد تكاليف المعيشة من إيجار وفواتير ومصاريف دراسية، وفي المقابل ثبات الراتب الذي لا يغطي الحد الأدنى من الاحتياجات.
وأشار سعيد إلى أنه في بعض الأيام، يعود إلى المنزل خالي الوفاض، ويحاول تجنب نظرات زوجته واختلاق الأعذار حين يسأله أطفاله عن لعبة رأوها عند أحد أصدقائهم.
وتابع : طفلي الأكبر يحلم بدراجة، طلبها مني في عيد ميلاده، فقلت له: الشهر القادم، مرت ستة أشهر وما زلت أردد الجملة ذاتها .
وأكد سعيد أن الحديث عن تحسين الأجور في المصنع الذى يعمل به يبدو وكأنه “خط أحمر”، لا أحد يجرؤ على المطالبة، لأن المصير معروف سلفًا.
وقال: إن “فتحت فمي في هذا الشأن، سأجد نفسي مستبدلًا في اليوم التالي، مشيرًا إلى أن المصنع الذي ينتج الملايين لا يمنح عماله ما يكفيهم لسد احتياجاتهم الأساسية”.
على الورق
من جانبه اعتبر الخبير الاقتصادي الدكتور عبد النبي عبدالمطلب، أن قرار رفع الحد الأدنى للأجور إلى 7000 جنيه خطوة إيجابية على الورق فقط، متسائلا عن إمكانية تطبيقه فعليًا، خاصة في القطاع الخاص، موضحا أن رفع الحد الأدنى للأجور ضرورة لمواكبة التضخم، لكنه لا يعالج المشكلة من جذورها، لأن القوة الشرائية للجنيه المصري تراجعت بشكل كبير خلال السنوات الأخيرة.
وقال عبد المطلب في تصريحات صحفية: إن “الحد الأدنى الجديد لا يزال أقل من تكلفة المعيشة الفعلية، مما يعني أن الموظف سيظل يعاني من فجوة بين الدخل والمصروفات”.
وأوضح أنه عند النظر إلى النفقات الأساسية للمواطن، نجد أن الحد الأدنى الجديد لا يغطي سوى جزءا بسيطا من الاحتياجات الضرورية، مشيرًا إلى أن متوسط تكاليف السكن وحدها تتراوح بين 3000 و5000 جنيه شهريًا، بينما تحتاج الأسرة المكونة من أربعة أفراد إلى ما لا يقل عن 4000 جنيه للطعام، بخلاف الفواتير، والمواصلات، والتعليم، والرعاية الصحية.
وكشف عبد المطلب أنه في ظل التضخم الحالي، يحتاج الحد الأدنى للأجور أن يكون على الأقل 10,000 جنيه لضمان حياة كريمة، ولكن ذلك يتطلب سياسات اقتصادية متكاملة لضبط الأسعار وزيادة الإنتاج، وليس مجرد رفع الأجور اسميًا .
القطاع الخاص
وعن التزام القطاع الخاص بتطبيق القرار أوضح أن المشكلة الكبرى تكمن في غياب الرقابة الفعالة والعقوبات الرادعة، مما يسمح لكثير من الشركات بالتحايل على القرار بطرق مختلفة، مشيرا إلى أن هناك شركات تسجل رواتب موظفيها على الورق بمبالغ تتوافق مع الحد الأدنى، لكنها في الواقع تجبر الموظف على التوقيع على إيصالات بمبالغ أعلى مما يتقاضاه بالفعل، وهذه الظاهرة منتشرة بسبب غياب آليات تنفيذ واضحة.
وأكد عبد المطلب أن الموظف في القطاع الخاص غالبًا لا يستطيع المطالبة بحقه، لأنه يعلم جيدًا أن أي اعتراض قد يؤدي إلى إنهاء عقده واستبداله بموظف آخر بأجر أقل، موضحا أن الحل لا يكمن فقط في رفع الحد الأدنى، بل في وضع إطار اقتصادي متكامل يضمن تحقيق العدالة في الأجور مع الحفاظ على استقرار السوق.
واقترح عدة خطوات لمعالجة الأزمة، أبرزها: تشديد الرقابة على الشركات الخاصة من خلال إنشاء هيئة مستقلة لمتابعة التزام المؤسسات بالحد الأدنى للأجور، وتلقي شكاوى الموظفين وحمايتهم من الفصل التعسفي، وفرض حوافز ضريبية على الشركات الملتزمة لدفعها إلى تحسين أجور العمال بدلاً من التحايل على القرارات.
وشدد عبد المطلب على ضرورة إطلاق برامج دعم للقطاع الخاص، خاصة الشركات الصغيرة والمتوسطة، لمساعدتها على تحمل زيادة الأجور دون التأثير على استمراريتها، وربط الحد الأدنى للأجور بمعدلات التضخم بحيث تتم مراجعته دوريًا لضمان توافقه مع التغيرات الاقتصادية، وكذا دعم سياسات الإنتاج المحلي لتقليل الاعتماد على الاستيراد وضبط الأسعار، مما يساعد على رفع القوة الشرائية للرواتب.
وأكد أن مجرد رفع الحد الأدنى للأجور لن يكون كافيًا ما لم يكن مصحوبًا بإصلاحات اقتصادية حقيقية، مشددًا على أن الحل الأمثل يكمن في تحسين بيئة العمل، وتعزيز الإنتاج، ومراقبة الأسعار، حتى لا يتحول القرار إلى مجرد أداة لتجميل المشهد الاقتصادي دون تأثير حقيقي على حياة المواطن.
قضية خطيرة
وأكد الخبير الاقتصادي الدكتور بلال شعيب أن الأزمة تتجاوز الجانب المالي لتصبح قضية اجتماعية واقتصادية خطيرة، محذرا من أن تدني الأجور يؤدي إلى اختلال في منظومة الاستهلاك، وزيادة معدلات الفقر، بل وتهديد الاستقرار الاجتماعي.
وقال شعيب في تصريحات صحفية: إن “الاقتصاد المصري يعتمد بشكل أساسي على الاستهلاك الداخلي، حيث يشكل الإنفاق الاستهلاكي للأسر جزءًا كبيرًا من الناتج المحلي الإجمالي، لكن مع استمرار تدني الأجور مقارنة بالتضخم، تراجعت القوة الشرائية للمواطن، مما أدى إلى ركود ملحوظ في بعض القطاعات الاقتصادية”.
وأضاف، عندما لا يستطيع المواطن العادي شراء السلع الأساسية أو حتى الكماليات، تنخفض المبيعات، مما يؤدي إلى تراجع أرباح الشركات، وتقليل الاستثمارات، وتسريح العمال، فيدخل الاقتصاد في حلقة مفرغة من التباطؤ والركود، مستشهدا بتراجع الإقبال على شراء السيارات، والأجهزة الكهربائية، وحتى المنتجات الغذائية مرتفعة الثمن، حيث لم يعد المواطن قادرًا على تحمّل أسعارها رغم محاولات التجار تقديم تخفيضات أو تسهيلات في الدفع.
وحذر شعيب من أن استمرار ضعف القدرة الشرائية قد يؤدي إلى تآكل سوق العمل الرسمي، حيث يلجأ أصحاب الأعمال أحيانًا إلى توظيف عمالة غير رسمية بأجور متدنية، مما يزيد من معدلات الفقر وعدم الأمان الوظيفي، فلا تقتصر الأزمة على الجوانب الاقتصادية فقط، بل تمتد إلى التأثير النفسي والاجتماعي، مؤكدا أن تدني الأجور وارتفاع الأسعار يخلقان حالة من الإحباط الجماعي وفقدان الثقة في المستقبل.
سياسات عادلة
وكشف أن الحل لا يكمن فقط في رفع الحد الأدنى للأجور، وإنما في إعادة هيكلة توزيع الثروة داخل المجتمع، بحيث لا تكون الفجوة بين الدخول مرتفعة بشكل غير عادل، مؤكدا أن هناك قطاعات تجني أرباحًا ضخمة، بينما لا يحصل العاملون فيها على رواتب تواكب مستوى الأسعا .
وطالب شعيب بفرض سياسات عادلة تضمن توزيعًا أفضل للأرباح، وإلزام الشركات الكبرى بزيادة أجور موظفيها بدلًا من تركيز الثروة في يد قلة من المساهمين والمديرين التنفيذيين .
وشدد على أهمية تحسين بيئة العمل بحيث يتمكن الموظف من تحقيق إنتاجية أعلى مقابل راتب عادل، بالإضافة إلى تقديم حوافز للقطاع الخاص لتشجيعه على زيادة الأجور، بدلًا من الاعتماد فقط على قرارات حكومية قد لا تجد تطبيقًا واسعًا.
وقال شعيب : “المواطن لا يحتاج فقط إلى راتب مرتفع، بل إلى اقتصاد مستقر، وخدمات جيدة، وسوق عمل عادل يمنحه فرصة للنمو والتطور دون أن يكون مضطرًا للبحث عن حلول يائسة”.