فهمي هويدي يكتب: أن تكون مقاومًا أو أن تكون صهيونيًا

- ‎فيمقالات

حين أُعلن عن اغتيال السيد حسن نصر الله في ذكرى وفاة الرئيس جمال عبد الناصر، نشرت إحدى الصحف المصرية صباح اليوم التالي صورة مرسومة لمذيع يعلن آخر أخبار الأمة العربية، بينما كان وجه الزعيم الراحل يتابعه من خلال صورة له مجللة بالسواد ودمعة ترسم الحزن على خدّه.

وفي نفس اليوم، وقع نظري على تعليق ذاع انتشاره لمواطن مصري على إحدى منصات التواصل الاجتماعي، قال فيه: “يحمل كل منا بكاءً عربيًا لا يدري أين يذهب به”، وأعلن آخر أن: “اليوم انصهرت المذاهب ولم يبقَ لنا سوى مذهبين، فإما أن تكون مقاومًا أو تكون صهيونيًا وكفى.”

 

ليس ذلك الصدى الوحيد لمشاعرنا إزاء الحدث الكبير الذي وقع في الأسبوع الماضي، لأن ثمة أصداء أخرى ينبغي ألا نتجاهل دلالاتها، نبّهني إلى ذلك تجربة شخصية مررت بها مؤخرًا، ذلك أني دُعيت إلى مؤتمر في عاصمة عربية، وفي الفندق حاولت أن أتابع أخبار غزة من خلال محطات الأخبار المختلفة، لكني فوجئت بأن الفندق حجبها جميعًا، بحيث صار البث الإخباري مقصورًا على قناة عربية واحدة سمعت بها ولم أكن من متابعيها.

ولأنه لم يكن لدي خيار آخر، أمضيت أربع ليالٍ أشاهد الأخبار من تلك القناة، وفوجئت بأن كل الأخبار والبرامج الحوارية تعبر عن وجهة النظر الإسرائيلية، ولا تذكر المقاومة الفلسطينية بأي خير.

 

لذلك دهشت حين عدت إلى القاهرة لمتابعة المحطات الأخرى بحُرية، فشعرت أنني انتقلت من عالم إلى آخر، وبعد قليل من الجهد والتحري، وجدت أن جبهة الموالاة الإسرائيلية لها حضور معتبر في الساحة الإعلامية، حتى في هذه الأجواء الاستثنائية، وأدركت أن لها إسهامًا كبيرًا في حالة البلبلة التي تعاني منها بعض الأوساط، خاصةً فيما يتعلق بتشويه حركة المقاومة، والتنديد بمجهودها، والإساءة إلى مكونات جبهة إسنادها، وما أصابني من حيرة وقلق ليس جراء تعدد تلك المنابر، الذي يمكن أن نفهمه، ولكن لأن غيرها لا تُتاح له فرصة التعبير الموازية، وتكون خاضعة في ذلك للتوجيه السياسي.

اليوم انصهرت المذاهب ولم يبقَ لنا سوى مذهبين، فإما أن تكون مقاومًا أو تكون صهيونيًا وكفى.

 

ثمة صدى آخر وجدناه واضحًا في مدى الاستعلاء والانتشاء الذي عبّر عنه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، إذ تقمص دور المنتصر الذي وجّه ضربة قاضية لأعدائه، فبالغ في الانتفاخ والعربدة حتى بدا وكأن الطريق بات مفتوحًا أمامه في كل الاتجاهات، ولم يعد بمقدور أحد أن يعترض طريقه أو يوقفه عند حدّه، فوصف معارضيه بأنهم “محور الشر”، وتحدث عن إعادة رسم وتصميم خريطة الشرق الأوسط، وفعل ذلك معتمدًا على الدور الأميركي وتعبئة الأبواق الدعائية.

تباهى بكل ذلك رغم أنه لم يحقق شيئًا من أهدافه الإستراتيجية التي أعلنها في بداية “طوفان الأقصى”، فلا هزم حماس ولا استعاد أسراه، وأهم ما أنجزه أنه نجح في قتل عشرات الآلاف من الفلسطينيين واغتال إسماعيل هنية ونصر الله،

ومن ثم أفلح كقاتل لا كمقاتل، حين قرر الإبادة بقتل ما يقارب من 50 ألف فلسطيني، فالجريمة قامت بها التكنولوجيا الأميركية، وليست العضلات الإسرائيلية.

صحيح أن قتل السيد نصر الله يُعد ضربة موجعة للمقاومة، لكنها ليست قاضية ولا قاصمة، بدليل أن الحزب أفاق من الصدمة بسرعة، وواصل في اليوم التالي الاشتباك مع إسرائيل وإطلاق صواريخه صوب أهداف الاحتلال بعمق أكثر من 100 كيلومتر في الداخل الإسرائيلي.

 

وفي حالتنا، فإنه أيًا كانت لنا ملاحظات أو تحفظات على موقف الحزب في سوريا أو غيرها، ينبغي ألا ننسى له احتضانه لفلسطين والأثمان الباهظة التي دفعها جراء ذلك، وهو ما ينبغي أن نذكره أيضًا لإيران، التي لنا أن نختلف معها في أي شيء باستثناء الموضوع الفلسطيني، بوجه أخص حين وهن عزم الأمة وانصرف الأهل عن القضية “الأساسية” لسبب أو لآخر.

كما لا ينبغي أن ننسى في هذا السياق أن استعلاء نتنياهو ومبالغته في استعراض القوة يراد به محاولة صرف الانتباه عن تعثره في غزة، وسعيه لمحو آثار العار الذي يلاحقه؛ بسبب فضيحة انكشاف جيشه وحكومته في السابع من أكتوبر.

علمًا بأنه وجماعته يلحون منذ عقود على إقناع العالم العربي بأن عدوه الحقيقي هو إيران، وليس إسرائيل، حيث ظل طول الوقت يتحدث عن الصراع بين السنة والشيعة، مظاهرًا التعاطف مع السنة، وزاعمًا أنه أقرب إليهم ممن اعتبرهم “خصومهم” التاريخيين، ومنتقدًا تطرف الشيعة، في مقابل اعتدال أهل السنة، منصبًا نفسه، وهو العدو اللدود، فقيهًا بيننا.

 

استعلاء نتنياهو الذي يتكئ على الدعم الأميركي المؤيد بالنفوذ الصهيوني والغياب العربي الذي رفع راية الصمت واعتبر علامة على الانصياع والرضا، أضيف له ضعف المؤسسات الدولية التي لم تعد تكنّ احترامًا أو تعمل حسابًا للعرب وقضيتهم، رغم الاعتراف بحقوقهم القانونية.

من ناحية أخرى، فإنني أضم صوتي للذين أدهشهم حجم الاختراق الإسرائيلي لجبهة الإسناد على النحو الذي قرأنا عنه وشاهدناه، خصوصًا بعدما لوحظ أن بعض الجرائم التي يرتكبها الاحتلال ويعتبرها انتصارات مصدرها الأساسي هو الاختراقات التي تمكن منها العدو، خصوصًا في بيروت التي تعد حقلًا واسعًا لها منذ نصف قرن.

وبهذه المناسبة، لا بد أن يُحمد لرئيس حركة حماس يحيى السنوار اهتمامه المبكر منذ شبابه وقبل اعتقاله في 1988 بتأمين الحركة وتطهير صفوف المقاومة وتحصينها ضد الاختراق، الأمر الذي قطع الطريق على كل تلك المحاولات على نحو ضمن لها النجاح في مسيرتها في أدقّ وأخطر مراحل انطلاقها.

ما عاد سرًا أن اليمين الإسرائيلي المتطرف هو الذي يحكم إسرائيل الآن ويدير الحكومة، وفي الوقت الراهن، كل المؤشرات تدل على أنه بمثابة الجيش الداخلي الذي يتحكم في الضفة الغربية، وقد وفر له وزير الأمن الداخلي، الذي يعد من رموزهم، أكثر من 200 ألف قطعة سلاح وُزعت على المستوطنين أصحاب النفوذ الأكبر في مختلف أنحاء الضفة، يعينهم في ذلك، للأسف، عناصر التنسيق الأمني التابعة للسلطة الفلسطينية.

كما أن شعبية أحزاب اليمين تزايدت بحيث أصبحوا يمثلون الأغلبية في البرلمان، ويتوسعون في اقتحامات المسجد الأقصى، والاستيلاء على بيوت وأراضي الفلسطينيين.

 

والانتشاء الذي عبر عنه نتنياهو خلال الآونة الأخيرة، انتقل إلى أولئك، بحيث رفع من معنوياتهم فضاعفوا غاراتهم على القرى الفلسطينية، ورفعوا أسقف طموحاتهم ولم يعودوا يترددون في الجهر بتبنّيهم آراء وأحلام آباء الصهيونية الذين روجوا لسردية “الأرض الموعودة” الممتدة من النيل للفرات، حتى صار مثيرًا للانتباه أن عملية طوفان الأقصى التي جددت حلم الفلسطينيين في استعادة وطنهم المغتصب، استنفرت في الوقت ذاته الأحزاب التوراتية، وأنعشت الخرافات القديمة، وجددت تطلعهم لبسط سلطانهم على كل الأراضي المحتلة وما عداها.

الغُزاة إذا تمكنوا، فإن حلفاءهم من أصحاب الأرض في العالم العربي لن يكونوا أفضل حالًا من الفلسطينيين في زماننا هذا الذي يبدو خرافات وأوهامًا مستحيلة حولته الآلة الصهيونية إلى خرائط مرسومة على الورق ومشروعات مخبأة تُجرى حولها الدراسات وتُجمع التمويلات وتُنسج أحلام المستقبل، وتتطلع أعين المخططين إلى منطقة الخليج أملًا في أن يكون لها دورها، ليس فقط في التمويل، ولكن أيضًا في توسيع رقعة الانخراط في التشكيل المرجو للشرق الأوسط، الذي يُستبعد وصفه بالعربي؛ لكي يستوعب الوافدين الجدد من غزاة المنطقة.

 

يدعونا ذلك إلى قراءة اغتيال نصر الله من زاوية أخرى، إذ إنها تمت بعد مضي نحو سنة على انطلاقة طوفان الأقصى، التي هدمت صورة إسرائيل وكشفتها عسكريًا وإستراتيجيًا واستخباراتيًا وأخلاقيًا، حيث تعامل الفلسطينيون معها كَندّ يمكن مقارعته وتحدي كبريائه، وكان ذلك إيذانًا بميلاد جيل من الفلسطينيين أصبح يشكل تهديدًا وجوديًا لإسرائيل.

وثبات هذا الجيل والصمود الأسطوري لحاضنته الشعبية يعني أنَّ المعركة معه مستمرة، وأنه ما دام استمرّ أولئك الفلسطينيون الجُدد على وجه الأرض فلن يهدأ للإسرائيليين بال، ولن يكون لهم مستقبل في فلسطين.

لذلك خَلُصَ العقل الصهيوني إلى أن المشكلة في الوجود الفلسطيني ذاته، وليست في حماس، وأعلنوها صريحةً حين محوا كل صور التفاهم مع الفلسطينيين، بما فيها اتفاق أوسلو، واتفاقية ترسيم الحدود المائية مع لبنان، كما أغلقوا عمليًا في خطابهم السياسي أي حديث عن حل الدولتين.

 

هذه الخلفية تفسر لنا السلوك الإسرائيلي في غزة، ورفح، والضفة، كما تفسر استمرار الغارات على الضاحية الجنوبية ببيروت ومقتل السيد نصر الله، باعتباره من رموز المقاومة والإسناد التي يُراد لها أن تختفي، وتلك ليست نهاية المطاف بطبيعة الحال، لأن الحلقات ينبغي أن تتواصل من خلال استمرار الضغط؛ لإضعاف حزب الله، وإسكات صوت المقاومة في اليمن الجنوبي، وفي العراق.

وسيكون ضرب إيران هو الحلقة الأخيرة في السعي لتجفيف منابع التمويل والإسناد، وإذا ما تحقق ذلك فإنه يُريح الإسرائيليين والأميركيين ومن لفّ لفهم، إذ سيصبح الفلسطينيون بلا سند أو معين، وستطوى صفحة المشروع النووي الإيراني. وبهذا لن يرتفع صوت متضامنًا أو مستنكرًا، وسيواصل العالم العربي صمته التقليدي عائدًا إلى موقعه في مقاعد المتفرجين على ما يجري.

لا أعتقد أن ذلك سيحدث ولا أتمنّاه، لكنني أتصور من خلاله كيف تفكّر إسرائيل والولايات المتحدة وحلفاؤهم للشرق الأوسط الذي يلوّحون به، غير أنني واثق من شيء واحد في هذه الحالة، هو أن الغزاة إذا تمكنوا، فإن حلفاءهم من أصحاب الأرض في العالم العربي لن يكونوا أفضل حالًا من الفلسطينيين في زماننا.