خطف الطفلُ المغربىُّ «ريان» الأنظار لمدة خمسة أيام متتالية، منذ وقوعه فى البئر يوم الثلاثاء الماضى وحتى لحظة انتشاله مساء أول أمس (السبت). ورغم توقع الكثيرين موته؛ لطول مكثه فى الظلام على عمق ثلاثين مترًا فى حفرة لا تتعدى نصف المتر دون طعام أو شراب عُرضة لهوام الأرض وقرص الشتاء -فإنهم انتظروا معجزة من السماء وتعلَّقوا بأمل خروجه معافًى.. لكنْ لله الأمرُ من قبلُ ومن بعدُ، ولا رادَّ لقضاءٍ قضاه..
مات «ريان» الذى لم يسمع به أحدٌ من قبل وربما لا يعرفه بعض سكان بلدته بعدما صار رمزًا، وتردد اسمه على ألسنة الملايين، وقد بعث إلينا بعشرات الرسائل أثناء عملية إنقاذه وبعد رحيله.. فسلامٌ عليه وعلى كل «ريان»، صغيرًا كان أو كبيرًا، سائلين الله أن يجعله ذخرًا لوالديه، وفرطًا وشفيعًا مجابًا، وأن يعظم به أجرهما، ويثقل به موازينهما. آمين.
أخرج «ريان» الإنسانية التى انطمرت أو كادت داخلنا، وأعاد إلى الأذهان قيمة النفس البشرية؛ وكونه طفلًا ضعيفًا فقد حاز التعاطف عما لو كان بالغًا، والأهم أنه أزاح الستار عن عاطفة شعوبنا الإسلامية وترابطها ووحدتها، وفى المقابل كشف خداع الأنظمة ولؤمها وتقاعسها.
أما الذين تعجبوا من الاهتمام الزائد بعملية إنقاذ الطفل فإنهم من الجيل الذى اعتاد الإهمال والإهانة ونشأ فى بيئات لا تعرف قيمة الروح -ولو كانت جنينًا- التى كرّمها الله وأعلى شأنها معتبرًا إحياءها إحياء للبشرية كلها؛ (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا…) [المائدة: 32].
لقد عرّى «ريان» تلك الأنظمة الفاسدة، جمهوريات وممالك، فى أوطاننا المنكوبة، التى لا تحركها إلا مصالحها فى البقاء، أو خوف اللوم والفضيحة من المجتمع الدولى.. تحركت حكومة بلد ريان بعد تلاقح خبر سقوطه على وسائل التواصل، وكان تحركًا بطيئًا لا يليق بالمخاطر التى تحيق بالطفل، وقد اكتفوا بالإمكانات التقليدية مما أهال التربة على المنقذين أكثر من مرة، وطوال أيام الإنقاذ كان هناك تعتيم على حالته حتى كثرت الأقاويل، بل فشا الكذب حتى قالوا إنه خرج سليمًا معافًى يأكل ويشرب كما كان بالأمس..
ويدل البيان الرسمى الصادر عن القصر بعد خروج الطفل بدقائق على الاستهانة بالشعوب؛ ففيه فقط إعلان وفاته واتصال «جلالة الملك» بوالديه لتعزيتهما، وكانت وزارة الصحة والأجهزة المعنية هى الأوْلى بذلك الإعلان وليس الملك، أما متى كُتب البيان وكيف خرج بهذه السرعة ولا زال الطفل فى عربة الإسعاف فهذا يؤكد أن الطفل كان ميتًا فى البئر وهم يعلمون ذلك، وأخرجوه ميتًا وهم متأكدون من قبل، لكنْ يعزُّ عليهم أن يطلعوا الشعب على الحقائق، وأنه يجب أن يتعاملوا معه دائمًا تعامل السيد مع العبد أو المالك مع الأجير.. هم فقط أرادوا أخذ اللقطة، ليقال: «طال عمره ما قصّر».
ولو صدقوا لنهضوا لإنقاذ آلاف الرياينة الآخرين فى أرجاء وطننا التعيس، خصوصًا فى سوريا واليمن وفلسطين، الذين يُقتلون تحت القصف وبالأسلحة الفتاكة، والناجى منهم يأكله الفقر. أو لا يعلمون أن الآباء فى سوريا يتناوبون على حراسة أطفالهم لئلا يتجمدوا فى المخيمات التى نصبوها فى الوحل فرارًا من قصف طائرات المجرم الذى يساندونه ويوفرون له الدعم؟ أو لا يعلمون أن سجون بلدى تضم أطفالًا صغارًا شيبتهم تلك السجون ولم يكونوا محظوظين مثل ريان فلم يجدوا إلى الآن ومنذ ثمانى سنوات من يحنو عليهم ويخرجهم من تلك المقابر الآدمية؟
وأثبتت حادثة «ريان» أن شعوبنا لا زالت حية عفية ذات عاطفة قوية ورابطة قلبية، وأنها لم تتزحزح عن موضعها فى حراسة الدين، ولم تفقد الأمل فى الوحدة، وكان يمكن استثمار هذه العاطفة لإنجاز حضارى وتطور إقليمى، لكن أبى الطغاة إلا التفرقة بين الشعوب واستدعاء النعرات القومية والتعصب الجاهلى؛ مستعينين فى ذلك بالإعلام الذى كان له الدور الأكبر فى تضخيم حادثة «ريان»، ولو استعانوا به فيما ينفع لصار حالنا غير حال البؤس الذى يضرب حدودنا من المحيط إلى الخليج، لكنهم ينفقون عليه المليارات ويجعلونه تابعًا للأجهزة الملكية أو الرئاسية ليظل دومًا فى خدمة تلك الرئاسات والعروش ممتنعًا عن الأوطان والشعوب.