..تحت الحصار والقصف
عندما سقطت 4 صواريخ على بيت أبوعبدالملك شرق الموصل في نوفمبر الماضي، لقيت زوجه أبيه، 60 عاماً، مصرعها على الفور، لكن دفن جثتها، حسب الأصول المعمول بها، استغرق أكثر من شهر.
فقد كانت الاشتباكات في حي الزهور والمناطق المحيطة به شديدة للغاية خلال تلك الفترة، ولم تسمح بنقل الجثة إلى المقبرة الرئيسية في حي كوكجلي الذي يبعد 5 كيلومترات.
ولذا، قام أبوعبدالملك ووالده وشقيقه وابنه وابن أخيه بحفر حفرة غير عميقة تحت شجرة برتقال في حديقتهم، على بُعد خطوات فحسب من المكان الذي لفظت فيه أنفاسها الأخيرة ثم واروها التراب.
قال أبوعبدالملك الأسبوع الماضي، وهو يبين لصحفي من رويترز كيف دمرت الصواريخ المطبخ وأشعلت النار في الأشجار، إن أفراد الأسرة لم يستطيعوا التحرك؛ لأنهم كانوا محاصرين، "وكان القناصة في كل مكان والجيش يتقدم".
وطلب تعريفه فقط بكنيته؛ لحماية أفراد العائلة في المناطق التي لا تزال خاضعة لسيطرة تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش).
ومع تقدم القوات العراقية عبر شرق الموصل في الهجوم الذي بدأ قبل 3 أشهر وتدعمه الولايات المتحدة، لا يزال سكان المدينة معرضين -كما يقولون- لخطر سقوط قذائف المورتر أو الإصابة بطلقات الرصاص مما يطلقه مقاتلو التنظيم في أثناء تقهقرهم.
عجزوا عن الوصول للمقابر
ولجأ المدنيون الذين يعجزون عن الوصول إلى المقابر الرئيسية بالمدينة إلى دفن موتاهم في أي مكان يتيسر لهم فيه الدفن، على الأقل حتى تبتعد الاشتباكات عن بيوتهم.
وقال أبو عبد الملك إنه عندما استخرج جثة زوجة أبيه يوم السبت الماضي لإعادة دفنها بجوار أسلاف العائلة في مقبرة كوكجلي، وجد أن الجثة بدأت تتحلل وتفوح منها روائح تزكم الأنوف.
ويتوقع سكان بحي القادسية الثانية أن يفعلوا الشيء نفسه في الأسابيع المقبلة. ففي فناء مدرسة ابتدائية، تبرز فوق سطح الأرض 8 أكوام مستطيلة من التراب، حيث دفن بعض السكان من المدنيين أصدقاء أو أقارب لقوا مصرعهم في مناطق استعادتها القوات المتقدمة من تنظيم "الدولة الإسلامية".
ومن بين الموتى أحد السكان من كبار السن أصيب بأزمة قلبية وحالت الاشتباكات دون نقله إلى المستشفى.
وقال أحد سكان المنطقة إنه دفن ابن عمه وابنيه في الأسبوع الماضي بعد أن قتل الثلاثة في هجوم بالمورتر في حي الرفاق عندما خرجوا لشراء البيض.
وطلب الرجل عدم نشر اسمه؛ خشية الانتقام من ابنه الذي يعيش تحت حكم "الدولة الإسلامية" في الشطر الغربي من الموصل الخاضع لسيطرة التنظيم الكاملة.
وتشير علامة على قطعة من الورق المقوى إلى قبر ابن عمه علي حسين، بينما يوضح طلاء على الجدار الخرساني المجاور موقع دفن الآخرين.
وقال الرجل: "سننقلهم جميعاً بالطبع عندما ينتهي هذا الكابوس".
وبقيت حفرة تاسعة مكشوفة تنتظر فيما يبدو الضحية التالية من ضحايا الحرب.
تعد حملة تحرير الموصل، التي يشارك فيها تحالف قوامه 100 ألف مقاتل من القوات الحكومية العراقية والشرطة وقوات الأمن التركية وفصائل شيعية، في الأساس، هي أعقد معركة يشهدها العراق منذ الغزو الذي قادته الولايات المتحدة عام 2003.
بجوار القمامة
وخلال الاشتباكات، بقي أغلب السكان في المدينة الشمالية التي تعتبر آخر المعاقل الكبرى لـ"الدولة الإسلامية" بالبلاد وأكبر مركز عمراني تحت سيطرة التنظيم في الأراضي التي أعلن فيها قيام دولة الخلافة في العراق وسوريا.
وتسبب ذلك في تعقيد مهمة الجيش العراقي، الذي يتعين عليه خوض المعارك بين 1.5 مليون مدني يعيشون في مناطق مكتظة بالسكان في مواجهة عدو استهدف المدنيين واختبأ رجاله فيما بينهم.
وبجوار مقبرة المدرسة الابتدائية في القادسية، يقع حقل مكشوف قال سكان إنه شهد مواجهة ضارية وقعت العام الماضي بين القوات العراقية المتقدمة ومقاتلي "الدولة الإسلامية".
وسقط السور الخارجي للمدرسة، ولحقت أضرار جسيمة بمباني المدرسة جراء الصواريخ والتفجيرات الانتحارية. وبعد أسابيع من الاشتباكات، لا تزال بضعة أجزاء متفحمة من جثث بادية للعيان.
أحد الانفجارات حفر حفرة في فناء بأرضية أسمنتية تم ردمها بالطمي.
ويقول سكان إنهم دفنوا نحو 6 من مقاتلي "الدولة الإسلامية" في تلك الحفرة بعد أن بدأت جثثهم تتحلل في الشوارع قبل أسبوعين.. ولا يوجد شاهد للقبر أو أي علامة توحي بما تخبئه الحفرة.
وقال علاء مقداد مصطفى (35 عاماً): "طلبنا من الجيش التصرف في الجثث وطلبوا منا أن ندفنها ولذلك دفناها هنا".
وفي حي المحاربين، يقول أحد كبار السن من السكان إن 3 جثث لقتلى التنظيم دفنت في أرض فضاء اعتاد السكان إلقاء القمامة فيها.